بابكر فيصل يكتب: في أوهام الأيديولوجيا
تُعبِّر الأيديولوجيا بمختلف أنواعها عن وعي زائف يُحركه التوق الذاتي وليس الواقع الموضوعي نحو تحقيق أهداف مرغوبة, أهداف تكون في الغالب غير قابلة للتطبيق والتحقق, ولذلك فهى أشبه بالجري المتواصل وراء السراب الذي لن يتم اللحاق به أبداً.
وبما أن الوعي الذي يسيطر على الفرد أو الجماعة عبر القناعات الأيديلوجية هو وعي زائف فإنه يزرع الوهم في نفوسهم فيجعلهم يعتقدون جزماً أنَه حقٌ مطلق وخلافه باطل خالص, وهنا يكمن جوهر أزمة التفكير الأيدولوجي إذ ينبني على مسلمات غير قابلة للنقض و يدَّعي امتلاك الحقيقة فتكون نتيجته الحتمية في واقع التطبيق العملي هى توليد العنف والإقصاء.
وعندما قال عالم الفلك الإيطالي “غاليليو غاليلي” في القرن السادس عشر بأن الشمس ثابتة والأرض تدور حولها, وأثبت خطأ نظرية أرسطو حول الحركة، وهى ذات النظرية التي كانت تعتنقها الكنيسة، تمت محاكمته بالهرطقة وأجبر على إعلان التوبة مع التهديد بحرقه حياً.
وكان غاليليو يصف أنصار أرسطو بأنهم “عندما يرون في الطبيعة ما يناقض كلمات أرسطو فإنهم يكذبون الطبيعة ولا يكذبون أرسطو”, مما يعني أنهم يتحركون وفقا لاعتقاد لا يتغير لأنه صادر عن جهة امتلكت الحقيقة المطلقة و لا يمكن أن تخطيء.
وإذ تقود الحقيقة المطلقة التفكير الأيدولوجي, فإن النتيجة الأخيرة عند سيطرة أصحاب ذلك التفكير على السلطة تكون هى الحكم الإستبدادي القاهر, يستوي في ذلك الماركسيين أصحاب “الاتحادي السوفيتي العظيم” أو الإخوان المسلمين أصحاب “الدولة الرسالية” في السودان.
في روايته “الصفر واللانهاية”, تحدث الكاتب الإنجليزي ذو الأصل الهنغاري “آرثر كوستلر” عن مأساة المثقف والسياسي الروسي روباتشوف، المناضل الشيوعي الذي وهب حياته للثورة البلشفية وانتهى به الأمر في إحدى المعتقلات الستالينية بتهمة التآمر على الثورة.
يتلقى روباتشوف عشية إعدامه في زنزانته وعظاً من قاضي التحقيق إيفانوف الذي يقول له: غداً ستشرق الشمس أيها الرفيق بعد أن نستأصل الثلثين الفاسدين باسم النظرية المعصومة لينعم الثلث الصالح بالسعادة. ثم يشرح القاضي لروباتشوف أن الجوائح الطبيعية تقضي على ملايين الناس في كل عام من دون فائدة وأنت تريد منا أن نتخلى عن التضحية ببضع عشرات آلاف في إطار أعظم تجربة تاريخية ؟
ويقول القاضي: (لقد صفينا الجزء الطفيلي من الفلاحين، وتركناهم يموتون جوعا. كانت عملية جراحية، وكان علينا أن نقوم بهذا مرة واحدة وإلى الأبد. في ذلك الزمان الطيب قبل الثورة، كان يموت منهم عدد مماثل في عام واحد بالجفاف، لكنهم كانوا يموتون بلا جدوى ولا نفع. إن الطبيعة تقوم بسخاء بالغ بتجارب لا معنى لها ولا وقع على الإنسان. لماذا لا يكون للبشرية الحق في أن تجرب على نفسها؟).
وبينما توضح التقارير السرية من المحفوظات السوفيتية التي تم الكشف عنها في التسعينيات من القرن الفائت أن ضحايا القمع في عهد الزعيم السوفيتي، جوزيف ستالين، كانوا حوالى 9 ملايين شخص، فإن الكثير من الدراسات الأخرى تشير إلى أن عدد الضحايا في ذلك العهد يصل إلى 20 مليون ضحية.
ولا شك أن وهم امتلاك الحقيقة المطلقة هو الذي دفع قادة الإتحاد السوفيتي إلى ارتكاب الجرائم الفظيعة التي راح ضحيتها الملايين، ذلك أن العقيدة التي اعتنقوها لا مجال فيها للخطأ بحسب تفكيرهم، والحزب الشيوعي الذي إنتموا إليه لا يمكن أن يخطيء فهو يمثل التجسيد العملي لتلك العقيدة في التاريخ.
وعلى الضفة الأخرى، سيطرت جماعة الإخوان المسلمين على السلطة في السودان وطرحت مشروعا أمميا يسعى لتغيير وجه العالم دون مراعاة للشروط الموضوعية التي تحكم الواقع , مشروع ينبني على الوهم الأيدولوجي الذي أراد الإخوان من خلاله جعل هذا البلد الأفريقي الذي يقع في هامش العالم الإسلامي ويعاني من مشاكل التخلف الاجتماعي والاقتصادي والحروب الأهلية منصة لعودة الحلم الإسلامي الكبير!
حينها قال لهم الأديب الراحل الطيب صالح إن بلدنا بلد هامشي و لم يك في يوم من الأيام مركزا للدولة الإسلامية، فنحن لسنا دمشق الأمويين ولا بغداد العباسيين ولا قاهرة الفاطميين ولا حتى إسطنبول العثمانيين، ولكنهم لم يستمعوا لصوت العقل وقاموا بتوريط البلد المسكين في صراعات إقليمية وعالمية أدت لعزلته من المجتمع الدولي، وعصفت بأحلام إنسانه في الحياة البسيطة والكريمة.
وبعد 30 عاما من الحكم الشمولي القاهر, خرج السودانيون للشوارع بالملايين في ثورة عارمة هدفت لإسقاط حكم الجماعة وتحطيم قيود الدولة البوليسية, فواجهتها سلطات الأمن ومليشيات الجماعة بالقمع والتنكيل, وما كان من الطاغية البشير إلا وأخرج فتوى منسوبة للإمام مالك يُبيح فيها قتل ثلث الشعب حتى يستقر الحكم لولي الأمر .
قال الطاغية في حديث مع بعض قادته العسكريين : (نحن مالكية، ولنا فتوى تبيح قتل ثلث المواطنين المحتجين ليعيش البقية بعزة)، مضيفا أن :(المتشددين من المالكية يفتون بقتل 50 في المئة من المواطنين) !
وهكذا فإن الأيدولوجيا بمختلف أشكالها (علمانية أو دينية) تدور حول أفكار وتصورات نهائية ومغلقة وغير قابلة للتغيير لأنها تعبر عن الحقيقة المطلقة، هذه الأفكار تتحول إلى عقائد جامدة لا تتورع عن قتل و تدمير الإنسان الذي تزعم أنها إنما جاءت لتخلق له الفردوس الموعود في الدنيا و/أو الآخرة, فتأمل!
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.