محمد عثمان إبراهيم يكتب: صورة أخرى لمرتزقة فاغنر تصنعها الدعاية الروسية الحديثة
على طريقة أفلام الأكشن الهوليودية شهدت دور السينما في دول محددة عرض فيلم سينمائي يعتبر من أكبر أعمال الدعاية الروسية لـ”مرتزقة فاغنر” في أفريقيا، حيث حضره المئات في بانغي، عاصمة جمهورية أفريقيا الوسطى، وفي سوريا وغيرها من الدول التي تجد روسيا نفوذاً فيها.
الفيلم الذي جاء بعنوان “سائح” يمجد مهمة من يسمون بـ “المدربين العسكريين” في جمهورية أفريقيا الوسطى التي تحاول الخروج من عنف الحرب الأهلية والنزاع المسلح الذي إنزلقت فيه عقب التدخل الروسي في المشهد السياسي للبلاد.
وفيلم “سائح” هو أكثر من مجرد فيلم يحتوي على مشاهد من الإثارة وأعمال القتل والتفجيرات وحروب العصابات والمرتزقة في أدغال الغابات الأفريقية، الفيلم يلخص بدقة تأثيرات التدخلات الروسية المختلفة في دول العالم، وفي القارة الأفريقية على وجه التحديد.
يحكي الفيلم قصة “المدربون العسكريون” الروس، و هم في الواقع جزء من مجموعة “فاغنر” للمرتزقة الروس والتي يمولها ويترأسها رجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوزين ، وهو أحد القلائل المقربين من الكرملين والمعروف أيضاً باسم “طباخ” الرئيس الروسي بوتين.
في أصل الحكاية من المفترض أن يكون وجود المدربون الروس في جمهورية أفريقيا الوسطى لأغراض تدريبية ، بدلاً من القتال في الخطوط الأمامية ، لكن يبدو أنهم يقاتلون أكثر بكثير مما يقومون بالتدريب.
وفي تقرير بثته سي ان ان ووفقًا لوسائل الإعلام الروسية ، تم تمويل الفيلم الدعائي من قبل يفغيني بريغوزين ، رئيس شركة فاغنر، ونوه التقرير، أن وكالة الأنباء الروسية المستقلة نقلت عن ثلاثة أشخاص على صلة بالسينما أن بريغوزين مول الفيلم، فيما قال أحد الذين أجريت معهم المقابلات إنه محاولة “لتبييض صورة مرتزقة فاغنر” التي تعاني من عزلة دولية جديدة بعد أن فرض الإتحاد الأوروبي مؤخراً مجموعة من العقوبات على الشركة وبعض منتسبيها بسبب أنشطتها ودورها في زعزعة الإستقرار في دول من عديدة من بينها جمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا وسوريا و أوكرانيا.
يبدأ الفيلم بمشهد تعرض مرتزقة روس لهجوم عنيف من قبل مجموعة من المتمردين في إفريقيا الوسطى، و يصور الفيلم المتمردين على أنهم عصابة من قطاع الطرق تخرج من الأدغال على دراجات نارية لإطلاق النار على السكان المحليين ونهب مراكز الشرطة وحرقها، و في تناقض صارخ ، يظهر الفيلم الروس كمدافعين عن المواطنين ، يقاتلون ببسالة ضد كل الصعاب، وهنا يحاول الفيلم “سائح” إعطاء المشاهدين صورة زائفة لمهمة الروس في البلاد لصد هجمات المتمردين ، وكيف أنهم يعملون جنبًا إلى جنب مع شركائهم في الجيش الوطني ، وسعيهم الى إفشال مخططات المتمردين لاقتحام العاصمة بانغي وإعادة السيطرة عليها.
يلعب دور البطولة في الفيلم الممثل ساث روديو Seth Wiredu و هو مواطن كاميروني الأصل تم تجنيده في الواقع للعمل مع مرتزقة فاغنر كخبير في شبكة الدعاية الروسية التي أنشأها مركز الدعاية المرتبط بالحكومة الروسية والمعروف باسم وكالة أبحاث الإنترنت والتي تعمل على التدخل والتأثير على نزاهة الإنتخابات في العالم عبر وسائل عديدة من بينها إستخدام شبكات التواصل الإجتماعي. ويعمل ساث روديو حسب وظيفته في فاغنر مسؤولاً مهماً في شبكة الدعاية الروسية في افريقيا، وهي شبكة تعمل على إنشاء المئات من الحسابات الوهمية والمزيفة على شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الإجتماعي بغرض تلميع صورة روسيا في القارة، ونشطت هذه الشبكة في السودان خلال الأيام الأخيرة من حكم الرئيس المخلوع عمر البشير، وما زالت تعمل حتى يومنا هذا، ولا أنسى أن ساث روديو سبق وأن عمل في دول أفريقية عديدة من بينها غانا في العام 2020 حيث إتهمه تقرير صحفي لـ سي أن أن بالتورط في عمليات غسيل أموال الى جانب عمله في شبكات مرتزقة فاغنر.
وبالعودة الى فيلم “سائح” نجد أن ساث روديو يلعب دور رجل يدعى مكسيم عاش في السابق في روسيا ويتحدث اللغة الروسية بطلاقة، ويعمل هذا المكسيم طيلة مدة الفيلم على تمجيد الإمبراطورية الروسية وتحسين صورتها أمام المشاهدين الأفارقة وغيرهم.
لم يأتي إختيار ساث روديو للعب هذا الدور صدفة، وإنما جاء بعناية من قبل ممول إنتاج الفيلم رئيس فاغنر للمرتزقة يفغيني بريغوزين، وعبر شركة “باريتيت” للإنتاج الإعلامي التي تمتلكها زوجته ليوبوف بريجوزينا، اذ ظهر في الشارة الختامية للفيلم (التتر) الإشارة الى استوديو يسمى “Paritet Media” وظهر اسم زوجة بريجوزين ، على أنها مالكة للشركة المنتجة للفيلم.
حاول يفغيني بريغوزين بإختياره لـ ساث روديو للعب هذا الدور أن يطبق أشهر نظريات التمثيل في العالم والتي أسسها المسرحي الروسي ستانسلافسكي، وهو أول من وضع منهج للممثل و عوامل بناء شخصيته في كتابه الشهير (إعداد الممثل)، فقد أعتمد بريغوزين على الشروط التي حددها سلفه ستانسلافسكي في بناء شخصية تتوافق مع معايير مرتزقة فاغنر، فوقع إختياره على ساث روديو حتى يقوم بحشد الدعم النفسي والإجتماعي لدى الأفارقة بإختياره شخصية أفريقية لتقوم بهذه الدور تماماً كما كان ساث روديو ينفذ مهام فاغنر في غانا في العام 2020.
كذلك أراد يفغيني بريغوزين من أستخدام شخصية ساث روديو أن يخدم الأهداف الروسية في التأثير على الرأي العام الأفريقي والحكومات الأفريقية لدعم مصالح روسيا في المنطقة، ويمكن لمن شاهد الفيلم أن يكتشف الضعف العام للسيناريو مع التركيز على التشويق والإثارة، لكن دونما هدف يدعم المصالح الأفريقية.
ولم يكن إختيار ساث روديو ليؤدي شخصية مكسيم صدفة، اذ يذكرنا هذا الإسم الروسي الواسع الإنتشار بمكسيم شوغالي، الجاسوس الروسي وعضو مرتزقة فاغنر الذي تخفي في دور عالم إجتماع روسي وتمكن من الدخول الى ليبيا في العام 2019 وبدأ في التجسس والتدخل في الشؤون الليبية والعمل على التأثيرعلى الإنتخابات الليبية، وبل وعمل على دعم عودة سيف الإسلام القذافي المطلوب لدى المحكمة الجنائية، الى الحكم، قبل أن تقوم السلطات الليبية بالكشف عن مخططات مكسيم شوغالي وترحيله الى روسيا مع مترجمه الخاص، وكلاهما يعملان لدى مؤسسة حماية القيم الروسية التي تتبع لشركة فاغنر. وهنا نجد أن كلا من الرجلين مكسيم شوغالي و ساث روديو يعملان في تناغم تام لصالح يفغيني بريغوزين الذي يسعى لحماية المصالح الروسية في القارة الأفريقية.
كما أن الشركة التي أنتجت فيلم “سائح” هي ذاتها التي أنتجت خلال العام الماضي سلسلة من أفلام الدعاية الروسية لمرتزقة فاغنروهو فيلم “شوغالي” والذي يحكي قصة أعتقال الجاسوس الروسي مكسيم شوغالي في ليبيا.
بالرغم من التمويل الضخم الذي حظي به فيلم “سائح”، وبالرغم من الميزانية الضخمة التي خصصت لصالح إنتاج هذا العمل السينمائي الكبير بإعتباره رمزاً للدعاية الروسية الحديثة، إلا أن هذا الفيلم كشف عن عورة روسيا المتمثلة في السعي لحماية مصالحها في القارة الأفريقية دونما التفكير العميق في القضايا الوجدانية والوجودية للشعوب الأفريقية، كما جاء الفيلم خالياً من القضايا الفلسفية ذات التحليل البنيوي العميق والرسائل ذات القيم الجمالية الرفيعة التي تعتمد عليها الدراما والسينما بشكل خاص، وكشف الفيلم عن منتجون يسعون الى تحقيق المصالح الروسية على حساب الشعوب الأفريقية، ومن ناحية أخرى أظهر الفيلم ممولي هذا العمل السينمائي وعلى رأسهم يفغيني بريغوزين ، كأشخاص لا يضعون مصالح الشعوب الأفريقية في المقدمة، حيث إستخدم الأفارقة لإهانة الأفارقة أنفسهم، على المستوى المحلي لمسنا ذلك حينما كان يفغيني بريغوجين يوزع الحلوى والأرز والعدس لفقراء السودان باليد اليمنى، بينما كانت الشركات الروسية تعمل باليد اليسرى على الظفر بثروات وخيرات البلاد من الذهب والمعادن، وفي الوقت الذي كانت تقتحم فيه مرتزقة فاغنر المساجد وتقتل المسلمين في جمهورية إفريقيا الوسطى في بلدة بامبري في 15 فبراير الماضي، كانت شركاتها الأخرى تعمل على تلميع صورة فاغنر وقواتها بإعتبارهم رسل للسلام ومنقذين للشعوب الأفريقية من براثن الفقر والجهل والمرض، وكيف لا وهم بالنسبة لـ يفغيني بريغوزين مجرد دمية في مسرح العرائس الروسي الكبير.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.