باج نيوز
موقع إخباري - أخبار اراء تحليلات تحقيقات بكل شفافية
taawuniya 1135*120

أبو ذر الغفاري بشير يكتب : معظم الحقيقة تحت الأرض النصب التذكاري بمدينة قوبا الآزرية وشهداء اعتصام ميدان القيادة

870

 

عثرت سلطات دولة آزربيجان على مقبرة ضخمة في مدينة قوبا أقصى شمال البلاد، أثناء قيامها بإجراء حفريات لتشييد أستاد على طرف المدينة في العام 2007. وقد ضمت المقبرة رفات مئات القتلى من الرجال والنساء والأطفال الذين تم إبادتهم في إطار حملة تطهير عرقي قامت بها قوات بلشفية وأرمنية عام 1918 وفقاً للرواية الرسمية الآزرية. فأقامت سلطات آزربيجان نصباً تذكارياً تخليداً لهذه المجزرة، عبارة عن هرمين يقع الجزء الأكبر منهما داخل الأرض، دلالة على أن معظم الحقيقة التي تحيط بهؤلاء القتلى لا تزال في باطن الأرض. فعدد القتلى على نحو دقيق لا يزال مجهولاً، كما أن ظروف قتلهم ولحظاتهم الأخيرة وهو يصارعون جلاديهم في سبيل النجاة يطويها المجهول. ولما يزل القتلة في منجاة من أن تطالهم يد العدالة الدنيوية ولو بمعرفتهم والتحقق منهم. ويدل رأسا الهرمين على الوخزات الطاعنة التي يظل ألمها قائماً لعدم القدرة على اكتشاف الحقيقة كاملة.

وقفت بالقرب من المقبرة وأثقلت كفي بالترحم على قاطنيها، ثم أنصت لمحدثتي الآزرية التي حكت عن الجثث التي عثر عليها وآثار التعذيب الوحشي التي كانت بادية عليها، ورددت معها عبارتها المليئة بالشجن: (إن هذا النصب ليس لشهداء ازربيجان وحدها، وإنما رسالة لكل الضمير العالمي بضرورة وقف المجازر في أرجاء المعمورة والانتصاف للقتلى).

خطر في ذهني أثناء وقوفي على عتبات الهرمين اللذين يكادان ينطقان من قدرتهما على التعبير، أن شهداء ثورة ديسمبر يستحقون مثل هذا النصب، وعلى وجه الخصوص شهداء اعتصام ميدان القيادة العامة. فقد نفذت المجزرة تحت سمع كل العالم، وكانت بجوار سور القوات المسلحة المعنية بحماية السودانيين وتحت مسؤولية قادتها، ولكن ذلك لم يعصم القتلة من إقامة حمام دموي وقتل ما يربو على مأتي معتصم سلمي في فترة لا تزيد عن خمس ساعات.

تشكيل لجنة للتحقيق في مثل هذه المجزرة وغيرها من حوادث العنف المسلح، من الأمور الإجرائية التي تتم وفق التشريعات السارية، وعلى وجه الخصوص قانون لجان التحقيق لسنة 1954، الذي يحتوي على نصوص كافية توضح كيفية تشكيل لجنة التحقيق، والسلطات التي تحوزها اللجنة لإنجاز أعمالها وغيرها من الموضوعات المهمة لتمكين اللجنة من أداء دورها، إلا أن واضعي الوثيقة الدستورية أمعنوا في التأكيد على ضرورة تشكيل لجنة التحقيق في جريمة اعتصام ميدان القيادة العامة، ورفعوها إلى مقام القاعدة الدستورية لمنحها أهمية قصوى، كأحد المهام التي تلتزم أجهزة الدولة بتنفيذها خلال الفترة الانتقالية. فنصت المادة (8) على مهام الفترة الانتقالية ومن بينها (تشكيل لجنة تحقيق وطنية مستقلة بدعم أفريقي عند الاقتضاء وفق تقدير اللجنة الوطنية، لإجراء تحقيق دقيق وشفاف في الانتهاكات التي جرت في الثالث من يونيو 2019، والأحداث والوقائع التي تمت فيها انتهاكات لحقوق وكرامة المواطنين مدنيين وعسكريين، على أن تشكل اللجنة خلال شهر من تاريخ اعتماد تعيين رئيس الوزراء، وأن يشمل أمر تشكيلها ضمانات لاستقلاليتها وتمتعها بكافة الصلاحيات للتحقيق وتحديد المدى الزمني لأعمالها).

كون السيد رئيس مجلس الوزراء في 21 سبتمبر 2019، لجنة التحقيق برئاسة المحامي نبيل أديب، ومنحت صلاحيات واسعة من بينها أحقية استدعاء أي شخص أو مسؤول حكومي أو نظامي أو موظف عام بغرض الإدلاء بشهادة أو التحقيق، وطلب أية معلومات من الأشخاص المذكورين تتعلق بالتحقيق، والاطلاع على محاضر التحقيق الجنائية والإدارية ودفاتر الأحوال والمكاتبات والتقارير العسكرية والشرطة والأمنية والطبية. وحددت لها مدة ثلاثة أشهر لإنجاز مهامها. ويبدو أن التفاؤل كان أكبر من مقاس عمل اللجنة، فقد مر الآن ما يزيد على العامين منذ أن تم تشكيلها وانقضت أكثر من ثمانية أضعاف المدة المحددة لتقديم تقريرها النهائي للسيد رئيس مجلس الوزراء، دون أن يطل في الأفق بصيص أمل بقرب انتهاء أعمالها. وتظهر بين حين وآخر تصريحات عن الصعوبات التي تواجه عملها من بينها ما ورد على لسان رئيسها من عدم قدرة إدارة الأدلة الجنائية السودانية على التعامل مع الأدلة المادية واعتذار الاتحاد الأفريقي عن تقديم الدعم اللوجستي، إضافة إلى بعض الصعوبات المالية، وقد انتهت إلى ضرورة الاستعانة بخبرة دولة لمساعدتها على فحص الأدلة والتأكد من صدقيتها.

من الضروري أن تقدم اللجنة تقريرها النهائي وأدلتها على المستوى المهني المطلوب الذي يمكن من معرفة ما جرى على وجه الدقة وتحديد المسؤوليات وتقديم قضية مكتملة الأركان للقضاء حتى لا يفلت القتلة من سلطان العدالة، لكن ذلك بالطبع لا يعني تطاول الأمد بدون التقيد بأي قيد زمني لإنجاز عملها. فقد آن الأوان لتقديم كل عون ممكن للجنة لتجاوز ومشكلاتها، وفي نفس الوقت رفع إشارة حمراء على نحو حاسم بضرورة انتهاء أعمالها.

لم تمس القرارات التي أصدرتها الفريق البرهان في أكتوبر 2021 بلجنة التحقيق في جريمة فض اعتصام القيادة العامة حيث أن المواد التي تم تجميدها في الوثيقة الدستورية والإجراءات التي تلت ذلك، لم تمس مهام هذه اللجنة، رغم أن هذه القرارات نكلت باللجنة التوأم وهي لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو وفرقتها أيدي سبأ بناء على سلطان الانقلاب، فانتهى بعض أعضائها إلى المعتقلات واعتصم آخرون بالمهاجر. ومن ثم أصبح مصير اللجنة في كف عفريت.

من الضروري أن تنجز لجنة التحقيق في جريمة فض اعتصام القيادة العامة أعمالها، وأن تتوصل للقتلة الحقيقيين، فالجرائم اللاحقة التي أزهقت فيها عشرات من الأرواح الذكية ما كان يمكن أن تتم لو أنجزت لجنة التحقيق في جريمة فض القيادة العامة مهامها وتوصلت للقتلة والمجرمين، ومن ثم طالتهم يد العدالة. فالشعور الذي يتولد لدى المجرمين بأن يد العدالة غائبة وأن سيف الحق لن يسل من غمده عندما تزهق الأرواح بغياً وظلماً هو أكبر تشجيع على ارتكاب جرائم أخرى.

د. أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

error: