باج نيوز
موقع إخباري - أخبار اراء تحليلات تحقيقات بكل شفافية
Baraka Ins 1135*120

أبوذر الغفاري بشير يكتب : الوثيقة الدستورية: التمادي في التنصل عن العهود أم استلاب السلطة؟

889

 

عامان وبضعة أيام حسوماً قطعتهما الفترة الانتقالية منذ أن تم توقيع الوثيقة الدستورية، في احتفال تداعت له الجموع، وشهد عليه العالم، وخرج فيه السيد محمد الحسن لبات الوسيط الأفريقي الذي قاد المفاوضات بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، معلناً على الملأ في عبارات تشع بالتفاؤل: (إنها لحظة لكتابة التاريخ بقوة الإرادة والوعي والحلم بسودان جديد). والحق يقال إنها لحظة فارقة نقلت البلاد من مشروعية ثورية إلى مشروعية دستورية، بعد مخاض عسير ممهور بالدماء، وأوجدت اتفاقاً مغلظاً حدد أطر العبور بالبلاد إلى مرحلة جديدة عبر فترة انتقالية محددة المدة والمهام، كما أسس لقاعدة موسعة لحكم البلاد والخروج بها من وهدة نظام دكتاتوري إلى نظام يقيم دولة القانون والعدالة.

بالطبع فإن الانتقال إلى مشروعية دستورية يتطلب رعاية العهد الذي أسسته الوثيقة الدستورية، وإرادة سياسية على مستوى تحديات الانتقال، تسنده وتؤسس للمرحلة المستقبلية. إلا أن ما كشفت عنه الحقائق على الواقع أن الوثيقة الدستورية لم تكن أكثر من ورقة يتم الاستناد اليها عندما تقتضي مصالح أصحاب القلم السياسي ذلك، ويتم الفرار منها حين تأتي أحكامها ومضامينها على غير ما تهوى الأنفس. فقد أخل الطرفان الموقعان على الوثيقة بما تضمنته من نصوص قبل أن يجف مدادها، فتم تعديل الوثيقة الدستورية بإضافة عدد من المواد دون اتباع آليات التعديل الدستوري اللازمة، ومن بين ذلك نقل صلاحية تعيين رئيس القضاء من مجلس القضاء العالي إلى مجلس السيادة إلى حين تشكيل مجلس القضاء العالي، وإضافة مواد أخرى بلغت في مجموعها سبع مواد.

وحينما تولى السيد وزير العدل مهامه في أول حكومة بعد التوقيع على الوثيقة الدستورية، أكد وجود وثيقتين دستوريتين تتكون إحداهما من ٧٠ مادة هي الوثيقة التي تم التوقيع عليها في الاحتفال الرسمي الذي حضره ممثلو الدول الصديقة والشقيقة ووقع بعضهم إشهاداً لذلك الاتفاق، ووثيقة أخرى تتكون من ٧٨ مادة، ومن ثم تم إصدار ونشر الوثيقة المعدلة دون أن يتم نشر ملابسات التعديل الذي أجراه أطراف التعديل، أو توضيح الاجراءات التي اتبعت فيه ومدى دستوريتها، وكأن الوثيقة الدستورية ليست دستوراً يقود المرحلة الانتقالية. وكان هذا أول مؤشر شؤم في طريق التنصل من الالتزامات التي يتطلبها الالتزام الدستوري من إقامة نظام حكم على أساس القانون، كما كان نذيراً عرياناً لما سيأتي في مقبل الأيام.

ثم جاء أوان تشكيل مجلس الوزراء الأول، وكان من الضروري أن يراعى فيه ما نصت عليه الوثيقة الدستورية من تشكيل المجلس من كفاءات وطنية غير منتمية لأي حزب سياسي تحقيقاً لما ذكرته الوثيقة في بندها الأول من المادة (15) والتي أوضحت بجلاء أن (يتألف مجلس الوزراء من رئيس وعدد من الوزراء لا يتجاوز العشرين من كفاءات وطنية مستقلة يُعينهم رئيس المجلس من قائمة مرشحي قوى إعلان الحرية والتغيير،..). إلا أن القوم لم يصبروا على هذا النص ونفضوا أيدهم عنه منذ التشكيل الوزاري الأول، حيث ضم مجلس الوزراء بعضاً من المنضوين تحت ألوية الأحزاب السياسية. ثم صار هذا الخرق عادة متبعة، إلى المدى الذي تسنم فيه بعض قيادات الأحزاب مناصب وزارية رفيعة.

وكان الانتهاك الأكبر، بالتنصل عن تشكيل المجلس التشريعي خلال المدة التي حددتها الوثيقة الدستورية وهي تسعون يوماً من تاريخ التوقيع عليها. وتم الاحتجاج في حينها بتأجيل تشكيل المجلس التشريعي إلى اكتمال الاتفاق مع الحركات المسلحة. ثم تم الاتفاق مع الحركات المسلحة ومر عليه ما يربو على العام والمجلس التشريعي حلم في رحم الغيب. وحدد السيد رئيس الوزراء مصفوفة حددت شهراً لتشكيله، ثم خرج أخيراً ناعياً عدم توفر إرادة سياسية لتشكيل المجلس التشريعي.

وضح أن العذر الذي تم تسويقه وإشاعته بين الناس لإرجاء تشكيل المجلس التشريعي، وهو الاتفاق مع الحركات المسلحة، لم يكن أكثر من سبب لكسب الوقت وإبقاء سلطات التشريع في يد الفئة الحاكمة وإبعاد الرقابة التشريعية عن الأداء الحكومي. فقد خسرت الفترة الانتقالية من غياب المجلس التشريعي، العين التي تراقب الأداء الحكومي، ومن ثم ضاعت فرصة مساءلتها عن أوجه القصور التي تظهر أثناء مزاولتها لأعمالها، وأصبحت الفرقة الحاكمة في مجلس السيادة ومجلس الوزراء هي الحاكم بأمره، توفرت في يدها سلطة التنفيذ والتشريع في ظل غياب الرقابة التشريعية الضرورية لصحة أي أداء حكومي.

أما أكبر خروقات الوثيقة الدستورية فهي التي طالت القطاع العدلي، وعلى وجه الخصوص الذي يؤثر على صلاحيات الفئة الحاكمة. فقد نصت الوثيقة الدستورية على مجلس القضاء العالي باعتباره الجهة التي تتولى تعيين رئيس القضاء ونائبيه، وتعيين رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية. ومن ثم تم الارتكان إلى النص الاستثنائي المدرج بعد تعديل الوثيقة ويمنح مجلس السيادة حق تعيين رئيس القضاء إلى حين تشكيل مجلس القضاء العالي، وتحول من نص استثنائي هدف إلى معالجة وضع طارئ يتعلق بملء منصب رئيس القضاء في الفترة القصيرة الأولى من عمر الفترة الانتقالية إلى نص أصلي. فتم تعيين رئيسة القضاء الأستاذة نعمات بناء عليه واستخدم أيضاً في إقالتها وتجرى محاولة اختيار رئيس قضاء جديد على أساسه أيضاً باختيار يتم من خلال لجنة حزبية ليس لها صلاحيات في ذلك.

في هذا الخضم من انتهاكات الوثيقة الدستورية غيبت المحكمة الدستورية التي يمكن أن تنظر في كل ذلك وتصدر قراراتها بمدى صحته. بما في ذلك التصدي للإخلال الدستوري الذي تمادي فيه مجلس السيادة ومجلس الوزراء باستلاب صلاحيات المجلس التشريعي بعد تغييبه، واستلاب سلطة مجلس السيادة في تعيين وعزل رئيس القضاء، كما أن المحكمة الدستورية صاحبة الاختصاص في رفع الحصانات الإجرائية عن عدد من الدستوريين بما فيهم رئيس وأعضاء مجلس السيادة.

لا يمكن النظر لهذه السلسلة المترابطة من الأفعال في انتهاك الوثيقة الدستورية في أمد زمني لا يتجاوز عامين من الممارسة الدستورية، على أنها طوارئ اقتضتها ظروف قاهرة، أو مجرد مصاعب عادية اعترضت طريق الانتقال، بقدر ما تدل على سلوك ممنهج لتمكين سلطة اتخاذ القرار في أيدي فئة محدودة، تشمل مجلس السيادة ومجلس الوزراء وإبعاد كل أوجه الرقابة التي يمكن أن ترفع بطاقة حمراء أو تؤثر على هيكل ممارسة السلطة الحالية الذي لا يتوافق مع ما بينته الوثيقة الدستورية.

ورغم ما يثار عن العوار الذي اشتملت عليه الوثيقة الدستورية والمناقص التي تضمنتها، فإن الفترة الانتقالية لم يصبها الأذى من ذلك بقدر ما أصابها من التنصل عن تنفيذ مقتضياتها وإقامة البناء المؤسسي الذي اشتملت عليه والوفاء بما تم الاتفاق عليه وأدرج فيها.

أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

error: