باج نيوز
موقع إخباري - أخبار اراء تحليلات تحقيقات بكل شفافية
taawuniya 1135*120

أبوذر الغفاري بشير يكتب : اختيار رئيس القضاء من قبل لجنة سياسية خرق للوثيقة الدستورية و انتهاك لاستقلال القضاء

810

 

الفصل بين سلطات الدولة أحد المبادئ الأساسية التي تؤثر على أوضاع العدالة، حيث يحفظ للسلطة القضائية استقلالها ويمنحها فرصة التمتع بالقدرة على اتخاذ أحكامها وقراراتها بالحيدة المطلوبة ودون مراعاة لأي اعتبار سوى ما يمليه الضمير الحي والوجدان السليم. ويعكس هذه المفاهيم ويترجمها على أرض الواقع وجود مجلس خاص هو مجلس القضاء العالي الذي يتولى من ناحية عملية إدارة السلطة القضائية والاشراف على أعمالها بما في ذلك اختيار رئيس القضاء ونوابه، على أساس مهني وفني بعيداً عن اعتبارات المصالح السياسية. وقد نصت الوثيقة الدستورية على هذا المجلس ومنحته الصلاحيات التي تمكنه من تولي مهامه في اختيار رئيس القضاء ونوابه بعيداً عن أجهزة الدولة الأخرى ونفوذ المجموعات السياسية، ولا يكون لمجلس السيادة إلا حق اعتماد الاختيار الذي يتم من قبل المجلس. والاعتماد في هذا المنحى ليس سوى التوقيع الشكلي لإنفاذ القرار لكنه لا يتضمن صلاحية مجلس السيادة في الاختيار من تلقاء نفسه أو رفض الاختيار الذي تم من قبل مجلس القضاء العالي.

عندما صيغت الوثيقة الدستورية عقب انتصار الثورة كانت الأحلام كباراً والأماني فياضة بتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات، وجعل استقلال القضاء واقعاً معاشاً من خلال إقامة مجلس القضاء العالي، الذي يحل محل مفوضية الخدمة القضائية ويتولى زمام إدارة السلطة القضائية، فأدرجت في الوثيقة الدستورية المبادئ التي تكرس  هذه الاستقلالية، فنص البند رقم (2) من المادة (30) على أن (تكون السلطة القضائية مستقلة عن مجلس السيادة والمجلس التشريعي الانتقالي والسلطة التنفيذية ويكون لها الاستقلال المالي والإداري اللازم)، كما نصت المادة (29) على نشوء مجلس القضاء العالي ويحدد القانون تشكيله واختصاصاته وسلطاته،  ومنحت الوثيقة الدستورية مجلس القضاء العالي حق اختيار رئيس القضاء ونوابه باعتباره الجهة المهنية التي تملك الحق في تمحيص سيرة المرشحين للمنصب الحساس وقياس مدى جدارتهم واختيار أفضلهم من ناحية مهنية. ولا يمكن أن تحل أي جهة سياسية أخرى محل مجلس القضاء العالي في تنفيذ مهمة اختيار رئيس القضاء على الوجه الحسن وعلى أساس مهني.

لم تتضمن النسخة الأولى من الوثيقة الدستورية التي تم توقيعها على الملأ وبحضور ممثلي المجموعات السياسية والاتحاد الأفريقي والمجتمع الدولي، نصاً يمنح مجلس السيادة حق اختيار رئيس القضاء ونوابه. ومن ثم فإن الخطة التي رسمتها الوثيقة الدستورية الأصلية هي أن ينشأ مجلس القضاء العالي على وجه السرعة ليتولى دوره في تعيين رئيس القضاء ونوابه وتعيين رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية، ثم ظهرت فجأة ودون سابق إنذار نسخة أخرى من الوثيقة الدستورية تضمنت نصاً يتيح لمجلس السيادة حق تعيين رئيس القضاء إلى حين إنشاء مجلس القضاء العالي. فالنص التشريعي الذي أدرج في الوثيقة في فترة لاحقة على توقيعها ويسمح لمجلس السيادة في تعيين رئيس القضاء هو نص استثنائي يمكن مجلس السيادة من تعيين رئيس القضاء في غياب مجلس القضاء العالي، وهو نص أدرج لمعالجة ظرف طارئ، ولم يقصد منه أن يتم تعطيل مجلس القضاء لمدة تربو على نصف المدة المقررة للفترة الانتقالية، أو أن يمنح مجلس السيادة حقاً دائماً في اختيار رئيس القضاء بناء على توصيات لجان سياسية حزبية بعيداً عن مجلس القضاء العالي المعطل.

كما أن هذا النص الذي يمكن مجلس السيادة من تعيين رئيس القضاء في ظل تعطيل مجلس القضاء العالي، على استثنائيته، تشوبه مخاطر عدم الدستورية. فقد تم إضافته إلى الوثيقة الدستورية بتعديل غير معلن ومخالف لآليات تعديل الوثيقة الدستورية. فالقرائن التي أحاطت بإجازة الوثيقة الدستورية دلت بجلاء أن الصلاحية التي منح بموجبها مجلس السيادة حق تعيين رئيس القضاء قد تمت بتعديل مخفي، وقد تم حسم الجدل حول صحة هذا الاجراء من قبل وزير العدل بتمرير الوثيقة المعدلة ودفعها إلى حيز الاصدار ونشرها في الجريدة الرسمية لحكومة السودان. وساهم في إيقاف هذا الجدل التغييب المتعمد للمحكمة الدستورية باعتبارها المحكمة  التي تملك حق الفصل في صحة اجراءات التي جرت بتعديل الوثيقة الدستورية.

لا شك أن حبلاً قوياً يربط بين تعطيل إنشاء مجلس القضاء العالي وتغييب المحكمة الدستورية وتمكين لجنة سياسية من اختيار رئيس القضاء بالمخالفة لما نصت عليه الوثيقة الدستورية، فهي موضوعات يأخذ بعضها برقاب بعض ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً، وتمثل في مجموعها إخفاقاً في إنشاء أجهزة العدالة على النحو الذي حددته الوثيقة الدستورية.

يتضح من المبادئ التي حددتها الوثيقة الدستورية أن محور الارتكاز في استقلال القضاء والحفاظ عليه بعيداً  من سلطات الدولة الأخرى هو تشكيل مجلس القضاء العالي. فهو الجهة الوحيدة التي تملك حق تسمية رئيس القضاء ونوابه ويقتصر دور مجلس السيادة على اعتماد من تم تسميته من قبل مجلس القضاء العالي. وهذا هو الواجب الماثل الذي يتعين القيام به الآن على وجه السرعة لإصلاح الخلل الناجم عن عزل رئيس القضاء من قبل مجلس السيادة دون أساس واضح، واختيار رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية للعب الدور المنوط بها في الرقابة الدستورية.

لا يمكن الفصل ين الطريقة التي تم بها عزل السيدة رئيسة القضاء وما تسرب من آلية لاختيار خليفة لها، بواسطة لجنة سياسية. فكل منهما مخالف لما نصت عليه الوثيقة الدستورية وتفتقر إلى السند القانوني الكافي، ولما تتطلبه معايير استقلال القضاء التي تقتضي النأي بالقضاء عن التأثير السياسي وـتأثير أجهزة الدولة الأخرى.  فقد عزلت رئيس القضاء دون سند واضح في الوثيقة الدستورية يمنح مجلس السيادة حق العزل. كما أن اختيار رئيس القضاء من قبل لجنة سياسية ليس لها صلة بالسلطة القضائية لا يمثل غير الخروج الكبير عن توجهات الوثيقة الدستورية، وانتهاك المبادئ التي تضمنتها وخنجر يطعن في حيدة القضاء. فرئيس القضاء الذي يمسك قلمه بيد مرتعشة من تفكيره في عواقب القرار الذي يتخذه وحذره من إغضاب السلطة السياسية التي أتت به أو المجلس السيادة الذي اعتمد ذلك الاختيار ويمكن أن يعفيه دون مرجعية، لا يمثل قضاء مستقلاً. فإنشاء مجلس القضاء العالي واجب آني لا محيص عنه لإقامة قواعد العدالة وتطبيق شعار الثورة بإقامة دول العدل وتصحيح مسار السلطة القضائية وآلية اختيار رئيس القضاء.

أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

error: