بدأت مديرة الوكالة الأمريكية للتعاون الدولى (يوسيد) السيدة سامانثاباور زيارتها الرسمية الأولى للسودان من دارفور التى سبق أن زارتها من قبل فى عام 2004م عندما دخلت عبر الحدود مع تشاد. لقد فضلت أن تتصل زيارتها الأولى قبل سبعة عشر عاماً بزيارتها الراهنة.
فى أغسطس 2013م أدّت الدكتورة سامانثاباور خريجة هارفارد القسم مندوبةً دائمة للولايات المتحدة الأمريكية فى الأمم المتحدة وذلك فى بدايات الولاية الثانية للرئيس باراك أوباما. كان كتابها (معضلة من جهنم A Problem from Hell) عن تاريخ الإبادة الجماعية بعد الحرب العالمية الثانية هو رسول التعارف بين الرئيس أوباما وهذه الفتاة الإيرلندية الأصل التى هاجرت مع والدتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية فى عام 1979م وعمرها تسعة أعوام لترتقى وبسرعة كبيرة مراقى السياسة والصحافة والدبلوماسية فى بلاد الأحلام.
ناصبت سامانثا حكومة الإنقاذ العداء مثل مُجايلتها سوزان رايس خاصة بعد إندلاع أحداث العنف فى دارفور من مستصغر شررها فى الفاشر حتى غطى أوارها العالم وغطى رماد نارها وجه البسيطة على إمتداد مليون ميل مربع آنذاك.
لقد صنعت سامانثا مجدها السياسى اليوم وفى المستقبل من التعريف بجريمة الإبادة الجماعية وتتبعها وتتبع مرتكبيها فى أوروبا وآسيا وأفريقيا وفى تتبع ما أُرتكب منها فى التاريخ القريب للبشرية رغم ما أعتور ذلك التتبع التاريخىمن إزدواجيةلاتخطئها العين الناقدة الفاحصة.
تناولت سامانثا مفهوم الإنخراطالإيجابى الذى نادى به باراك أوباما فى حملته الإنتخابية عام 2007م مع الخصوم والأصدقاء على السواء فى كتابها الأخير The Education of an Idealistوهو كتاب مذكرات memoire لسيرتها الحياتية. وقد طبقت هذا المفهوم بنجاح أثناء عملها فى الأمم المتحدة حيث بنت جسوراً من التعارف والتفاهم مع أصدقاء بلادها وغير الأصدقاء سواءً بسواء. زارتنىفى بعثة السودان فى الأمم المتحدة فى 3 مارس 2016م . ناقشنا تنفيذ المسارات الخمسة التى حددتها الإدارة الأمريكية الديمقراطية لتطبيع العلاقات الثنائية. أتفقنا وأختلفنافى عددمن التفاصيل وكانت فى كل الأحوال منفتحة تماماً وتتعامل بروح إيجابية. النتيجة المباشرة لهذا اللقاء هو أنها قامت فوراً وبعد اللقاء بإجراء الإتصالات مع واشنطن لإستثناء البعثة الدبلوماسية السودانية فى نيويورك من الحظر الأمريكى على السودان بما يمثله ذلك من نموذج لإنهاء معضلة تحويلات السفارات السودانية المنتشرة فى الخارج. وبالفعل تم تحويل أول مبلغ مالى للبعثة عن طريق بنك الخرطوم فى 20 مايو 2016م غير أن هذا الحل لم يعمم على بعثاتنا كلها كما كان مأمولاً.
قد تكون التحولات العميقة فى السودان سانحةً للسيدة سامانثاباور لتعيد بشجاعة عرفت بها وتراجع قناعتها بإرتكاب جريمة الإبادة فى دارفور. فالحقيقة أولى بالإتباع والحقيقة غاية فى ذاتها. إن تقرير وقوع حالة إبادة جماعية فى أية بقعة فى العالم أمر يتطلب الروية والصبر والتمحيص وإستبعادالإعتبارات غير الموضوعية. وتقرير وقوعها فى نهاية المطاف عار لايلحق الحكومات حصراً بل يمتد للشعوب. وهناك قرائن دامغة تنفى تماماً إرتكاب هذه الجريمة البشعة فى دارفور من قبل أى طرف من أطراف النزاع بحيث يصعب ويستحيل القفز فوقها أو إغفالها. لقد وقعت فظائع وإنتهاكات خطيرة فى دارفور فى الأعوام الثلاثة الأولى للنزاع غير أنها لم ترق فى نظر المجتمع الدولى كله إلى إرتكاب جريمة الإبادة الجماعية من الأطراف المتحاربة كلها. وقد لايعلم الكثيرون أن منظمة الأمم المتحدة نفسها لم تصف الوضع فى دارفور بأنه وضع إبادة جماعية. وعندما أنشأ مجلس الأمن اللجنة الدولية للتحقيق فى دارفور فى قراره المرقوم 1564 فى 18 سبتمبر 2004م، طلب من اللجنة الإجابة على سؤال محدد وهو “ماإذا كانت الإبادة
الجماعية قد حدثت فى دارفور؟” فكان رد اللجنة فى تقريرها للمجلس ” أن حكومة السودان لم ترتكبها مباشرة أو عن طريق المليشيات التى تسيطر عليها”.
The Government of Sudan has not pursued a policy of genocide directly or through militia under its control.
أرجو أيضاً أن أعدد فيما يلى الشهادات الدولية الإقليمية الأخرى النافية لمزاعم إرتكاب هذه الجريمة البشعة:-
1/ فى يونيو 2004م صرح الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفى عنان بأنه “لايمكن أن يصف ماحدث من قتل فى دارفور بأنه إبادة جماعية.“
2/ فى مايو 2004 خلصت بعثة الجامعة العربية للتحقيق فى دارفور إلى أن الوضع هناك ليس وضع إبادة جماعية وليس وضع تطهير عرقى.
3/ جاء فى بيان مجلس السلم والأمن الأفريقىفى يوليو 2004م بأنه “ورغم أن الأزمة فى دارفور خطيرة إلا أن الوضع لايمكن تعريفه بأنه وضع إبادة جماعية”.
4/ فى أغسطس 2004م خلصت بعثة الإتحادالأوروبى لتقصى الحقائق فىدارفور”إلى عدم وجود ما يثبت أن الذى يقع هناك هو إبادة جماعية”.
5/ صرح رئيس منظمة الوحدة الأفريقية “الإتحادالأفريقى لاحقاً” الرئيس النيجيرىأوباسانجوفى ديسمبر 2004م بأن “الوضع فى دارفور لاينطبق عليه تعريف الإبادة الجماعية”.
6/ فى زيارة له إلى دارفور، صرح الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر “بأن هناك تعريفاً قانونياً للإبادة الجماعية لا ينطبق على الوضع فى دارفور”.
7/ فى عام 2004م جاء فى تصريح لمنظمة أطباء بلا حدود (MSF)أن “إطلاق الصرخات بوقوع الجريمة الكبرى، جريمة الإبادة الجماعية وخلط ماهوعسكرى بما هو إنسانىلإيجاد مسوغ للتدخل إنما يقصد به خدمة أهداف سياسية محددة”. ومضت إلى القول بأن منظمة أطباء بلا حدود “يجب أن تنأى بنفسها عن الأجندة الدعائية ومقاومة الخلط المتعمد”.كما أن رئيس المنظمة الفرنسية آنذاك د. جان هيرفبرادول وصف مزاعم إرتكاب الإبادة الجماعية فى دارفور بأنها “إنتهازية سياسية عارية”.
تفتخر منظمة أطباء بلا حدود أنها وفى الوقت الذى عجزت فيه الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا وغيرها عن الإعتراف بوقوع إبادة جماعية فى رواندا عام 1994م فإن المنظمة أقرت بوقوعها وأعلنته ودعت إلى التدخل العسكرىبإعتبار الدعوة إلى التدخل العسكرى لوقف الإبادة الجماعية فىأى مكان فى العالم هو الإستثناء الأوحد للموقف المبدئي ضد هذه التدخلات وأن المنظمة تقول بثقة بعدم وقوع إبادة جماعية فى دارفور على نقيض موقف هذه الدول نفسهاالمنادية بوقوعها هناك وأن المنظمة بفضل مواقفها المشرفة فىالماضىوالتى ظلت تتمسك بها قد فازت فى عام 1999م بجائزة نوبل للسلام.
أجازت الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 11 سبتمبر 2015م قراراً بتخصيص يوم للأحتفال بذكرى ضحايا الإبادة الجماعية فى العالم.فىإعتقادنا أن أكبر إساءة لذكرى هؤلاء الذين سقطوا ضحية هذه الجرائم البشعة فى الحرب العالمية الثانية فى أوروبا وفى البوسنة وكمبوديا ورواندا وفى فلسطين فىعامى 1947 و 1948 وغيرها هو الإستغلالالسياسى لهذه الجريمة وإفتراء الكذب بشأن وقوعها وهو لايقلفى بشاعته عن الجريمة نفسها ويفرغها من التضامن الأخلاقىالعالمى لمنعها وقمعها.
وللأسف الشديد فإنه وحتى بعد نجاح الثورة فإن الأثر الباقىللإتهامبإرتكاب هذه الجريمة الذى يتعدى النظام السابق ويقودتشويه سمعة هذه البلاد التى عرفت فى تاريخها القديم والحديث بالسلام والأمن قد يكون له أثره المدمر على جهود البناء الوطنى والحفاظ على وحدة السودان.
إننا نعلم أن شخصيةً سياسية دبلوماسية قانونية صحفية وفكرية مثل سامانثاباور لها تأثير على مواقف الحزب الديمقراطى الذى يتولى الإدارة فى أمريكا حالياً عليها وعلى المهتمين والمتابعين لأحوال السودان أن يعلموا بوجود توجس ملموس بإرهاصات عنف قادمة وتهديدات تنطلق بين الفنية والأخرى،وأن ذلك يحدث لأسباب وعوامل كثيرة متداخلة متعددة للوصول إلى هذه النقطة التى يتخوف كثير من السودانيين شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً مما قد ينتظرهم فيها من بلاء.
التاريخ: 2/ 8/2021م
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.