أصدرت المحاكم أحكاماً في عدد من القضايا ذات الصلة بثورة ديسمبر والعنف الذي مارسه بعض المتهمون ضد الثوار، ومنها حكم دائرة المراجعة بالسلطة القضائية في قضية الشهيد أحمد الخير الذي أيد الحكم الصادر بإعدام تسعة وعشرين متهماً، كما أصدرت المحكمة الابتدائية حكماً في قضية الشهيد حنفي عبد الشكور وقضت بتوقيع عقوبة الإعدام على المتهم، وقضت أيضاً المحكمة الابتدائية حكماً في قضية الشهيد عزمي فتحي هرون وقضت بإدانة المتهم وأوقعت عليه عقوبة الإعدام. وستظل هذه الأحكام وغيرها من أحكام الإعدام الأخرى معطلة إلى حين تشكيل المحكمة الدستورية وتمكين المحكوم عليهم من حقهم في الطعن على هذه الأحكام لانتهاكها الحق في المحاكمة العادلة.
تتطلب العدالة قبل تنفيذ أحكام الاعدام، وجود المحكمة الدستورية التي لها الحق في حماية الحقوق الدستورية للمحكوم عليهم بما في ذلك الحق في الحصول على محاكمة عادلة، والتأكد من توافق المحاكمات التي تمت بحق المحكوم عليهم مع معايير حقوق الانسان كما نصت عليها الوثيقة الدستورية. وقد أسهبت الوثيقة الدستورية في توضيح أركان المحاكمة العادلة والقواعد التي تقيد تنفيذ عقوبة الإعدام وذلك ضمن وثيقة الحقوق التي ضمنت في الوثيقة الدستورية. ورغم أن اختصاص المحكمة الدستورية من الأمور التفصيلية التي ترد في القوانين المنظمة، إلا أن الوثيقة الدستورية حرصت على تحديد هذه الاختصاصات وتأكيد سلطة المحكمة الدستورية في حماية هذه الحقوق، فذكرت في المادة 31 (1): (المحكمة الدستورية محكمة مستقلة ومنفصلة عن السلطة القضائية، تختص برقابة دستورية القوانين، والتدابير وحماية الحقوق والحريات والفصل في النزاعات الدستورية).
لا تعد المحكمة الدستورية درجة من درجات التقاضي العادي، ولا تملك حق النظر في قرارات المحاكم من حيث توافقها مع أحكام القوانين والتشريعات، ومن ثم فليس لها مراجعة أحكام المحاكم بهذا المعنى، وقد ذكر قانون المحكمة الدستورية لسنة 2005 (لا تخضع أعمال السلطة القضائية والأحكام والقرارات والإجراءات التي تصدرها محاكمها لمراجعة المحكمة الدستورية) إلا أنها بالطبع محكمة مستقلة معنية بحماية حق المحكوم عليه في المحاكة العادلة، ولها حق التأكد من مدى توافق الحكم الذي تصدره السلطة القضائية مع معايير حقوق الانسان المعتمدة. وتنفيذ أحكام الإعدام بحق المحكوم عليهم في ظل تغييب المحكمة الدستورية خطيئة لا سبيل لمعالجتها وتتحمل الجهة المنفذة وزرها إلى الأبد. ويمكن فهم تصريحات رئيسة السابقة السيدة نعمات عبد الله حول تعطيل تنفيذ أحكام الإعدام في هذا الإطار، حيث ذهبت إلى أن عدم تشكيل المحكمة الدستورية يؤدي إلى تعطيل أحكام الإعدام.
سيظل الحكم الذي أصدرته الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في قضية أسماء محمود محمد طه وآخر (ضد) حكومة السودان، أحد الأحكام السامقة في تاريخ القضاء السوداني ومناراً يتعين الاهتداء به في تقرير الحق في المحاكمة العادلة والسهر على ذلك، فقد قضى ببطلان الحكم بإعدام الأستاذ محمود محمد طه ، وأكد على ضرورة حصول المتهم على محاكمة تتوافق مع معايير حقوق الانسان،ـ وذكر في عبارات يكاد يطفر الأسى من كل حرف من حروفها لعدم القدرة على استدراك النتائج التي ترتبت على تنفيذ حكم الإعدام على الأستاذ محمود، بما يخالف الحق الدستوري في محاكمة عادلة فيقول في نعيه للمخالفات التي ارتكبتها محكمة الاستئناف العليا: (ورغم ما شابتها من مخالفات للقانون والدستور، فقد أصبحت حقائق في ذمة التاريخ ، تقع المسؤولية عنها سياسية في المقام الأول ، ولم يعد من الممكن استدراك كثير من النتائج التي ترتبت على كل ذلك، إلا ما بقى منها دون نفاذ، كما لم يعد من المتاح النظر إلى الوراء إلا لأغراض العظة والعبرة. فلم يعد من الميسور بعث حياة وئدت مهما بلغت جسامة الأخطاء التي أدت إلى ذلك، تماماً كما أصبح من الصعب إن لم يكن من المستحيل العثور على جثمان أخفى بترتيب دقيق)
لا مناص من وقف تنفيذ أحكام المحاكم التي صدرت فيها أحكام بالإعدام، ليس في القضايا التي ارتبطت بالوضع السياسي في البلاد وإنما في كل القضايا التي حكم فيها بالإعدام، وذلك لتمكين المحكوم عليهم من ضمان الحصول على محاكمة عادلة، كما أنه من الضروري تحديد المسؤولية بصورة واضحة عن الذي يتحمل النتائج التي ترتبت على تعطيل تشكيل المحكمة الدستورية.
لتشكيل المحكمة الدستورية فيتعين إصدار قانون ينظم مجلس القضاء العالي والذي بدوره يملك الحق في اختيار رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية وفقاً للوثيقة الدستورية. ورغم أن أجل قضاة المحكمة الدستورية قد انتهى منذ أكثر من ستة عشر شهراً، أي في يناير 2020، إلا أن الإجراءات اللازمة لتعيين قضاتها لم يتم البدء فيها حتى الآن، حيث تبداً بإصدار قانون مجلس القضاء العالي الذي يملك حق تعيين قضاة المحكمة العليا، وتقع المسؤولية المباشرة في تعطيل هذا القانون على مجلسي السيادة والوزراء مجتمعين فهما اللذين حلا محل المجلس التشريعي من ناحية أمر واقع في إصدار التشريعات، ولا تظهر في الأفق حتى الآن خطة واضحة لتجاوز هذا الفشل المزري والذي لا يليق بحق ثورة خرجت على الناس وأحد شعاراتها المقدسة تحقيق العدالة.
على مجلسي السيادة والوزراء القيام بالخطوات اللازمة لإصدار قانون مجلس القضاء العالي لتفادي الاخلال بتحقيق العدالة وضمان اكتمال المؤسسات العدلية المعنية بحفظ الحقوق وهذا واجب لا يمكن التأخر عنه ولا يتعين الانتظار مزيداً من الوقت وإهداره في غير طائل.
أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.