العبيد أحمد مروح يكتب: أفق التحول الديمقراطي في ظل الحكومة الجديدة
بدأت حكومة الدكتور عبد الله حمدوك الأولى ( سبتمبر ٢٠١٩ – فبراير ٢٠٢١) عملها في ظروفٍ دقيقة وبالغة التعقيد داخلياً وخارجياً، وزاد من تلك التعقيدات أن رئيس وزراء “حكومة الثورة” وجد أن القوى السياسية التي تصدرت المشهد قبيل التغيير وبعده لم تتفق على برنامج عمل عقب الإطاحة بالنظام الذي كان حاكماً، وكأنهم كانوا في شكٍ بأن النظام سيذهب. وعلى إثر سقوط النظام انخرطت أغلب تلك القوى “الثورية” في محاولات مستميتة للاستحواذ على أكبر قدرٍ ممكن من مكاسب السلطة، حتى أن بعضها أخذ يستعين بخصومه المفترضين على حلفائه الأقربين؛ وكان ذلك بداية الانحراف عن مسار الثورة الرئيسي بما في ذلك مشروع التحول الديمقراطي القائم على إرساء وتجسيد شعارات الثورة الأبرز (حرية، سلام وعدالة) !!
2
سيختلف الناس حول تقييم أداء حكومة حمدوك الأولى، وذلك وفق الزاوية التي ينظرون منها إلى منظومة الحكم الجديدة. البعض سيشيعها بالدعوات “الله لا أعادها” والبعض الآخر سيشيعها باللعنات “إلى مزبلة التاريخ” والبعض سيحتسب عند الله ما ضاع من عمره طوال الفترة التي تولت فيها أمر الناس، لكني أميل إلى الاعتقاد أن مَن سيحزن لرحيلها وهو في ذات الوقت “الخاسر” الأكبر من ذهابها هم أنصار النظام السابق، الذين فقدوا بفقدها نظام حكمٍ أغناهم – بأسلوبه المرتبك في إدارة الدولة وسياساته الفطيرة – عن كثير من المنطق الذي كانوا يحتاجونه لمناهضته، وإني لأرجو أن تكون حكومة الدكتور عبد الله حمدوك الثانية أكثر حكمة وأفضل أداءً من الأولى والتي خذلتها حاضنتها السياسية وأعياها اضطراب نهجها وضعف لياقتها الذهنية وقلة زادها في معرفة المجتمع السوداني، عن ترجمة تطلعات الشعب إلى برنامج سياسي راشد يستجيب لشعارات الثورة.
3
خلال الفترة التي تولت فيها حكومة الدكتور عبد الله حمدوك الأولى قيادة سفينة البلاد، تعرّضت شعارات الثورة الأبرز (حرية ، سلام وعدالة) إلى قدر هائل من التجريف والتجديف، حتى فقدت تلك الشعارات بريقها وكادت تفقد قيمتها، فحرية التعبير وحرية التنظيم وحرية العمل النقابي وغيرها من الحريات العامة كانت تخضع لمعايير إنتقائية، لا يضبطها قانون ولا وجدان سليم وإنما مزاج أشخاص تحركهم نوازع الثأر والتشفي بأكثر مما تحركهم روح العدالة وثقافة الحقوق المدنية. أما السلام الشامل فما زال بعيد المنال، ليس فقط بسبب امتناع حركات مسلحة عن الانخراط في مفاوضاته، بل أيضاً لكون مساحات التوتر في مجتمعانا تضاعفت، وعاد السودانيون في كثير من ولايات البلاد إلى حواضنهم الإجتماعية وقبائلهم ، يبحثون عن الحماية والسند ويطالبون بحقوقهم ويعطلون حركة النقل، بعد أن عجزت قوى الحرية والتغيير “الحاضنة السياسية” عن إفراد مظلتها لتشملهم، وأضحى مرجحاً نشوء تمردات جديدة بدأت تتخلّق في رحم السودان المبتلى بالتمرد منذ ما قبل الاستقلال. وأما عن العدالة فحدّث ولا حرج، إذ الحديث عن استقلال السلطة القضائية وعن تساوي الناس أمام القانون وعن نفي الاتهام بلا دليل وبراءة المتهم حتى تثبت إدانته وعن تساوي الحقوق في الوظيفة العامة وفي الفرص الخاصة لكسب الرزق، وغيرها من القِيم التي كان الناس يتطلعون لتجسيدها وتوسعتها، أضحى إما حبراً على ورق أو لم يبلغ مرحلة الكتابة بالحِبر حتى !!
4
سيكتب التاريخ في سجل حكومة الفترة الانتقالية الأولى أنها عطّلت إنفاذ القانون الذي شرّعته بنفسها، وأعني بذلك قانون إزالة التمكين، فوقفت عاجزة – بمجلسيها السيادي والتنفيذي – عن تشكيل وتفعيل لجنة استئناف القرارات الصادرة عمّا يعرف بلجنة إزالة التمكين. وسيُكتب في سِجل مجلسيها أنهما عطّلا قيام المحكمة الدستورية فتعطّل التقاضي في إحدى أهم مراحله، وأصبحت العدالة عرجاء، وسيُكتب في سجلهم أنهم بدلاً من إلغاء القوانين المقيدة للحريات وسن القوانين التي تحمي الحقوق العامة، استخدموا قوانين النظام الذي يتهمونه بأنه “قمعي” وزادوا قمعية بعضها ليكمموا أفواه المعارضين والناشطين. وسيُكتب في سجلهم أنهم بدلاً من ترتيب أولويات التشريع ليبدأوا بالأهم ثم المهم ، اختاروا القضايا الخلافية و “سفاسف الأمور” لتشكل أولويات تشريعهم الجديد، أو تعديلاتهم على التشريعات القائمة. ومَن تابع أداء وزارة العدل التي تبتدر مشروعات القوانين الجديدة أو التعديلات على القوانين القائمة سيجد أمثلة بلا حصر على ما أقول. وسيكتب التاريخ أن حكومة التحول الديمقراطي عجزت
لثمانية عشر شهراً ، هي عمرها، عن ابتدار خطتها لذلك التحول، ولم يفتح الله على وزارة عدلها ، باعتبارها جهة الاختصاص، أن تتحدث، عن خطة الحكومة الإنتقالية لكيفية إرساء قواعد التحول الديمقراطي ووضع دستور جديد واختيار نظامي الحكم والإدارة في البلاد. ربما لأنها، كانت تنتظر وصول البعثة الأممية “يونيتامز”، لكي تفعل ذلك بالإنابة عنها !!
5
الآن تتجدد الفرصة مع تشكيل حكومة جديدة بإضافة “شركاء السلام” إلى مجلس الحكم وجهازي الدولة السيادي والتنفيذي، وبقرب تعيين برلمان يُرجى له أن يكون أفضل تمثيلاً للمجتمع السوداني المتنوع، ومع هذه الفرصة الجديدة تشتد الازمة السياسية والاقتصادية بالبلاد الأمر الذي يتطلب انفراجة في المناخ السياسي بتوسيع دائرة الحريات والتصالح مع الشعب وليس مع النظام القديم (وهو بطبيعة الحال جزء من الشعب)، إذ يجدر بقيادة الدولة أن تكتب في سجل صفحتها الجديدة رسالة سياسية للكافة مفادها أن شعارات الثورة الأساسية ستكون هي الهادية لسلوك الدولة ومواقفها السياسية، ولتكن البداية الرمزية الجديدة بإطلاق سراح المعتقلين من الشباب الناشطين ، وعلى رأسهم معمر موسى وميخائيل بطرس وأحمد الضي بشارة ، فقد مضى على اعتقال بعضهم قرابة العام بلا محاكمات بل بلا تهم أصلاً ، وتجري محاكمة أحدهم بقانون مَعِيب لا يتناسب وكفالة حرية التعبير فى بلد ديمقراطي، ولن يضيف إلى سوابقنا القضائية إلا دليلاً آخر على أن دولتنا في عهد التحول الديمقراطي لا تقيم لحرية التعبير وزناً.
6
سننتظر الإعلان عن برنامج الحكومة الجديدة، لنرى ما إذا كان يتضمن خطة للعبور نحو أفق ديمقراطي جديد ، أم أن “العبور والانتصار” اللذين طالما حدثنا عنهما السيد رئيس الوزراء سيكون سقفهما ما تضمنه بيان مكتبه في وداع وزراء حكومته الأولى، وحينها سيكون لكل حادث حديث.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.