م/محمد فائق يوسف: الدورة الخبيثة … وما أدراك …
كنت وحتى قريب اؤمن بالمقولة الشائعة ان مشاكل السودان انما كان من اسبابها الرئيسية ما تعارفنا على تسميته بالدورة الخبيثة ونعنى بذلك تعاقب فترات الديمقراطية وفترات الحكم العسكرى.
لقد تيقنت الان ان الدورة الخبيثة الحقيقية انما هى تعاقب الاحزاب والقوى التقليدية التى تسندها وسيطرتها على الحكم خلال كل الحقب عسكرية كانت ام ديمقراطية بحيث تعيد وفى كل مرة نفس النظام والمفاهيم والسياسات بل ونفس الاشخاص.
تجدها فى الانظمة العسكرية تتحالف معها وتشارك فى المؤسسات التى تنشئها تلك الانظمة وتشارك فى انتخاباتها الصورية معتمدة على خلفيتها الجهوية او القبلية او الدينية.
فاذا جاءت الديمقراطية عبر تضحيات القوى الوطنية والشباب والنساء لاحداث التغيير عادت تلك القوى الحزبية التقلبدية الى الحياة السياسية مرة اخرى عبر نفس الكيانات التى تأتى بها كل مرة لذلك فهى تقف ضد التغيير من اين جاء .فاذا حاول العسكر احداث تغيير وقفت تلك القوى ضده واذا حاول الثوار احداث تغيير وقفت تلك القوى ضده لانه وببساطة سوف يحد من تأثيرها المجتمعى وبالتالى يحد من سطوتها وقدراتها على التأثير السياسى.
اذا نظرت فى قوائم اعضاء المجالس النيابية التى تكونت فى السودان فى اى عهد منذ الجمعية التشريعية مرورا بالاستقلال وحتى اخر مجالس العهد البائد فسوف يدهشك تكرار اسماء الاسر التى يأتى من ينتمون البها نوابا فاذا غاب الاب جاء بدلا عنه الابن واذا غاب الابن جاء بدلا عنه ابن العم.وهكذا تتبادل بعض الاسر السيطرة على الحياة السياسية فى بلادنا.
ومن جانب اخر يساهم المثقفون الشرهون لتولى المناصب فى استمرار الدورة الخبيثة فما من نظام شمولى الا وجد ضالته فى العديد من المثقفين والمتعلمين الذين على استعداد للعق أحذية العسكر وصولا الى الكراسى الدوارة.يصوغون له الدساتير ويقيمون له المؤسسات الديكورية باسم ديمقراطية مدعاة ويصورون له أنه عبقرى زمانه ومحبوب الشعب.
هذا بالطبع لا ببرر للعساكر المغرورين الذين تزين صدورهم الشرائط الملونة وترصع اكتافهم النجوم والسيوف وتزين لهم احلامهم انهم قادرون على حكم البلاد وادارتها باحسن مما يفعل المدنيون ،يتصرفون ويتحدثون كانهم عباقرة زمانهم يتلاعبون بموارد البلاد وثرواتها كل همهم التمتع بامتيازات السلطة ووجاهتها فيوردون البلاد موارد الهلاك. فيلسوف،اظنه بربطانيا وقد نسيت اسمه ،قال ما معناه ( ان اسوأ انواع البشر هم العساكر،لانهم ،وحينما اختار كل انسان لنفسه مهنة تساعد فى اصلاح حياة الناس واعمار الارض،فانهم اختاروا المهنة الوحيدة التى تقتل الانسان وتدمر الارض،فلا ترجو منهم خيرا)
ما يؤكد حديثى هذا ما يحدث الان بعد اتفاقية جوبا للسلام،اليس الموقعون هم نفس الاشخاص الذين كانوا عونا للنظام المباد بل وبعضهم ممن أتى به بدأ وهم يتحدثون الان باسم حركاتهم ومنظماتهم وجهوياتهم.نعم هم يتحدثون عن السلام ولكن قليلا ما تأتى الديموقراطية فى احاديثهم.وهو سلام ناقص لان حركتيم مهمتين،ان لم تكونا الاهم،رفضتا التوقيع عليه كما ان بعض من القوى السياسية والمجتمعية عبرت جهرا عن عدم رضائها عن مخرجاته وشككت فى تفويض الموقعبن باسمها على الاتفاق.هكذا فلا يعدو اتفاق جوبا فى عيون الكثيرين سوى اتفاق محاصصة لاقتسام الثروة والسلطة بين الموقعبن عليه ممن حملوا السلاح وكأنهم جيش منتصر يفرض شروطه على المهزوم.
الاحزاب الموجودة على الساحة الان،ولا استثنى حزبا، لم تعد مؤهلة لان تحكم فهى ليست جاذبة للشباب الذين قدموا ارواحهم رخيصة فى سبيل المدنية والديموقراطية وهم يرونها تنخرط فى ممارسة نفس اللعبة القديمة ولعبة التحالفات السياسية ومحاصصات الكراسى.كما انها كلها أو أكثرها تحمل دمغة المشاركة مع النظام البائد فى وقت ما لسبب ما. وهى تعانى من الانشقاقات والاتقسامات وقد تكلست قياداتها من طول الجلوس على كراسى الرئاسة وفقدت صلتها بجماهيرها بعد ثلاثين عاما من الابتعاد عن العمل السياسى الجماهيرى ولم تعد قادرة على مواكبة التغيرات الديموغرافية والمفاهيمية التى اتى بها انتشار التعليم وثورة المعلومات
على احزابنا ان ارادت البقاء ان تطور من نفسها وتبتكر البرامج والوسائل التى تخاطب الشباب وتفتح امامهم افاق المستقبل لحياة كريمة ضحوا بارواحهم من اجلها. لا يستطيع حزب ان يزايد على الاخرين بعدم المشاركة مع النظام البائد فمن ظل على اتصال دائم وتفاوض مع الانقاذ من اول يوم الى ما قبل سويعات من ثورة ديسمبر وسقوط النظام، ليس اقل وزرا من الذين شاركوا.ثم ان من لم يشارك مع البشير فقد شارك مع النميرى ناهيك عمن ادخلوا سنة الانقلابات اصلا بالاتيان بعبود فانطبق عليهم الحديث ( من استن سنة …) فعلى هذه الاحزاب أن تعكف على مراجعة مسيرتها وتفتح ابوابها للشباب والنساء وتضع من البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية ما يغريهم بالانضمام اليها والمساهمة فى العمل الوطنى من خلالها.
حال الوطن اليوم يغنى عن السؤال ،خزينة فارغة ،عسكر يسيطرون على القرار ،مليشيات خارجة عن السيطرة تمثل جيشا داخل الجيش ،قوى مدنية ضربتها الخلافات،دولة تدار بواسطة اعداء الثورة،والثوار الحقيقيون بعيدون. ليس من خلاف فى ان هذا الوضع هو ما ورثته الحكومة الانتقالية ،كذلك فلا خلاف فى ان بعضه مصنوع بغرض تعطيل التغيير الذى كانت من أجله الثورة وهناك قوى تحاول ان تستغله لارجاع عقارب الساعة الى الوراء واعادة النظام البائد وهى لا تعدو احلام ظلوط ولكنه يمكن ان بخلق وضعا معقدا اقتصاديا وسياسيا يسمح لقوى الردة بتعطيل عجلة التغيير.
القوى التقليدية تنظم الان صفوفها مرة أخرى متحالفة مع فلول المؤتمر الوطنى ومرتزقة النظام البائد استعدادا للانقضاض على السلطة عبر الانتخابات التى ما تزال رهن الغيب معتمدين على قواعدهم القبلية والجهوية ولن يعدموا بالطبع بعضا من المثقفين المستوزرين الذين يتقلبون بين الوزارات كما يتقلبون فى فراشهم،فى المساء هم وزراء مع احزابهم وفى الصباح هم وزراء مع النظام الجديد.
ولجنة البشير الامنية الممسكة بالسلطة من خلال وجودها فى المجلس السيادى والقوات التى تحت يدها تتصور أنها يمكن أن تحكم كل الفترة الانتقالية وما بعدها وهى تعمل على ذلك من خلال اضعاف الحكومة الانتقالية وشغلها بالازمات وما تصريحات البرهان وحميدتى التى لا تنقطع بخافية.
كان الامل معقودا على تحالف الحرية والتغيير وعلى من أتى بهم للحكومة الانتقالية فاصبحنا نطالع تصريحات قيادات الحرية والتغيير الناقدة للحكومة فلم نعد نعرف ابا لهذه الحكومة. عقدنا الامل على تجمع المهنيين فأصبح تجمعين، عقدنا الامل على شباب الاتحاديين الذين كان دورهم فى الثورة مشهودا وظننا أن تحت القبة فقيها فاذا بهم بدلا من أن يتوحدوا ليقودوا المسيرة اذا هم يتناسلون . الشباب والكنداكات الذين صنعوا الثورة لم ينجحوا حتى الان فى انشاء كيان يجمعهم ويتحدث بأسمهم ،الجميع ينهكون قواهم فى الخلافات الصغيرة وتراهم بأسهم بينهم شديد، تماما كما يحدث بعد كل ثورة.
وما…. أدراك…
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.