ثمة ما يشبه الإجماع بين المصادر والمراقبين والمحللين على أن الحكومة الإنتقالية الحالية فشلت فشلاً ذريعاً في وضع لبنات أولية لانتشال البلاد من أوضاعها المتردية التي أدت للثورة. فبدلاً من حلها عمّقت كل الأزمات إلى حد انهيار كل القطاعات الخدمية للدولة، من صحة وتعليم و نقل ، إلى غلاء متصاعد بسبب رفع الدعم كلياً عن الوقود والكهرباء من غير تدبير مسبق، أو إقامة شبكة حماية للطبقات المتعثرة مالياً.
وحتى الحاضنة السياسية للحكومة انفرط عقدها منذ أيامها الأولى قبل أن تبدأ اختبارات الحكم الحقيقية التي سقطت فيها سقوطاً مريعاً.
-٢-
فائض الإحساس الثوري عند شباب وصبايا الثورة الذين يمرون بمرحلة عمرية حساسة ومثيرة، سددت طلقات قاتلة لفترة الانتقال، وذلك لكثرة انتهاك الطريق العام والخروج لأسباب واهية في مظاهرات ومسيرات، مع غياب تام للحاضنة السياسية التي فرضت نفسها بانتهازية واعية وكيلاً شرعياً لثورة الشعب بدلاً من تجييش كل الطاقة الشبابية المتفجرة لمعركة الإنتاج وبناء الدولة على أسس جديدة وحديثة، تشرك بها كل القوى دون إقصاء لأحد ، وساد بدلاً عن ذلك عبث الحزب الشيوعي و قوى اليسار المختلفة التي بثت سمومها لتقسيم المجتمع السوداني إلى جناة قتلة و سارقين دون محاكمات .
-٣-
بعد اتفاقية سلام جوبا، وبرغم التحفظات التي أبداها عليها بعض المراقبين ، ضُخت دماءٌ جديدة في شرايين العملية السياسية المتوترة بسبب فقر الإدارة والتخطيط والفاعلية.
إذا تجاوزنا بعض النجاح في عملية السلام لا شيء يذكر للحكومة الانتقالية سوى رفع العقوبات الأمريكية عن السودان بعد مقايضة ذلك بالتطبيع وبعد دفع جزية سخية أرهقت خزينة الدولة الخالية من العملات الأجنبية.
تبدو حقيقة أداء الحكومة الانتقالية منذ انتصار الثورة وكأنها تسدد الطعنات القاتلة على جسد المواطن…ارتفاع يومي للأسعار يمثل نزيفاً حاداً في الجيوب التي افرغتها الحكومة بانسحاب صادم عن دعم السلع الأساسية “كالخبز والكهرباء والوقود”.
كل هذا يحدث مع نقص مريع في اجتراح إقتراحات مبدعة من حكومة إلتف حولها الناس في أكبر دعم جماهيري قُدم في تاريخ السودان الحديث.
– ٤ –
تنتظر الجماهير العطشى لتغيير حقيقي وملموس للحكومة المطعّمة بعناصر مقدرة من الحركات المسلحة، وفي اعتقادي إذا تخلت الحركات عن نظرتها الضيقة واتسعت حدقتها لكل السودان بدلاً من التركيز على مناطق محددة سيكون أجدى وأنفع بكثير، فالبلاد كلها مهمشة حتى العاصمة القومية تحتاج لثورة ثقافية كبرى مثل ما فعل الزعيم الصيني الكبير “ماو”.
التشكيل القادم يمكن أن يكون آخر فرص التجريب للحكومة الإنتقالية التي فشلت في انتشال البلاد من وهدتها بل زادتها تدحرجاً في حفرتها العميقة.
فإذا تخلت الحركات المسلحة المشارِكة في مؤسسات الفترة الإنتقالية عن الإحساس بنشوة الإنتصار والعمل على رفع الظلم عن الكل، وعدم إقصاء أي مكون فاعلٍ، سياسياً كان أم إجتماعياً فسيتحقق قدر من النجاح المثير.
فالتشكيل القادم ورث دماراً كاملاً في كل مناحي الحياة ، حيث غابت العدالة وانتشرت ثقافة الكراهية والتشفي والفوضى و التكسير المتعمد لهيبة الدولة الذي معه استبيحت كل المحرمات في ظل غياب لرسالة إعلامية من الدولة تحافظ بها على التنوع والحرية التي تحترم حرية الغير و تراعي طريقة المجتمع في معالجة قضاياه وفقاً لتقاليده وأعرافه المرعية.
– ٥ –
من المرجح أن يكون التشكيل القادم للحكومة الإنتقالية هو آخر التشكيلات لهذه الفترة، وبهذا الاقتراض فليس أمامه خيار سوى النجاح، وإلاّ فسينتهي الأمر إلى إنقلاب لكنه سيكون غير ما نعرف عن الطريقة التقليدية للانقلابات من مارشات عسكرية مع ترويج إذاعي فخيم و متوجس في آن واحد في انتظار البيان الأول .
الانقلاب هذه المرة سيكون عبارة عن إنفلات أمني لا تحمد عقباه وأقرب للحرب الأهلية الشاملة، وحينها – لا سمح الله – سيصدق علينا قول مَن حذرونا من مصير بعض الدول التي تحولت ثوراتها إلى حروب أهلية دمرت البلاد وشرّدت العباد.
وعليه فلنلتف جميعاً حول قيم الثورة وشعاراتها وحول منظومتنا الأمنية نحاول الدفاع عنها وحمايتها ضد التذويب و التلاشي تحت أي مسمى و أي شعارات أو دعاوى، فهي يا سادتي ما تبقى من هواء الأرض.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.