سفينة بَوْح –
زحام الأحداث وسُرعة وتواتُر مثول التغيُّرات على الساحة السياسية ، ربما أدت إلى نسيان الكثيرين لأسباب ومُلابسات (توافُق) الطرفين المدني والعسكري على تكوين حكومة إئتلافية بعد نجاح ثورة ديسمبر في إسقاط الطاغية ، هذه الحكومة التي لا يمكن تفادي وصفها بأقل من ما تُعبِّر عنهُ مقولة (لابُد مما ليس منهُ بد) ، فالجميع كان يعلم حينها أن اللجنة العسكرية الأمنية والتي تحوَّلت إلى ما سُمي وقتها بالمجلس العسكري كانت إجمالاً في محل شكوك الجماهير ومثاراً لتخوَّفاتهم من الإنقلاب على ما تم إنجازهُ بالتضحيات الجِسام ، ولم يكُن خافياً على البُسطاء قبل الحُصفاء أن النظام الإسلاموي البائد لن يفوت عليه وبعد ثلاثون عاماً من الهيمنة على السودان وشعبه أن يؤسِّس و(يُمكِّن) لعناصرهِ التنظيمية داخل الجيش والقوات الأمنية والشرطية ، وذلك إستناداً لواقعية السؤال المشروع (وما الذي يجعل المؤسسة العسكرية في حصانةٍ من التمكين في ظل نظام شمولي إنقلب حتى على نفسه ؟) ، ولكن وبعد كل تلك الشكوك وإتساع دائرة إنعدام الثقة عند الجماهير حينها في حكومة إنتقالية تشارك فيها شخصيات عسكرية كانت تُمثِّل خط الدفاع الأول عن النظام البائد ، وكانت أيضاً ساعدهُ الأيمن في البطش الذي إستهدف المعارضين والثوار ، كان واجباً علينا القيام (بتنشيط) ذاكرتنا حتى نستطيع (التكيُّف والتماهي) مع أحداث اليوم ووقائعهُ المُتتالية التي ما زالت تُشيرُ في كل مرة إلى كون تلك الثورة لم يشتد عودها ولم تكتمل أركانها بعد ، وأنها بتلك العيوب الإستراتيجية التي تغافلنا عنها كنعامةٍ تدفن رأسها في الرمال ، نكونُ في عِداد (الحالمين) والمُرتجين للسراب إن إعتقدنا أن ثمارها المجنية ستكون (حرية – سلام وعدالة).
المعاناة المعيشية ، والتضييق على الحُريات العامة الذي لم يُبارِح مكانهُ بعد الثورة ، والإنهيار الإقتصادي ، وسوء الأداء السياسي والإداري والفني ، وإستمرار مُقاطعة أهل الكفاءة والثقافة والفن والإبداع والفكر والعلوم للدولة و(توجُّسهُم) منها ، وظهور الإنتهازيين والمُتسلَّقين والنفعيين (عُنوةً وإقتدرا) في مسيرة السودان الإنتقالية نحو الديموقراطية ، جميعها تُعتَّبر ثمرةً واجبة ومُستحقة لما يمكن تسميتهُ الإرتكان إلى أنصاف الحلول في نهايات مشاهد الثورة المنقوصة التي لم يكتمل مشوارها آنذاك ، بدعوى إيقاف نزيف الدم والإكتفاء بمن سبقوا من ضحايا ، فما بُني على باطل فهو باطل ، فالعدلُ لا يستوي بتنصيب الجاني قاضياً وحاكماً وإذلال المجني عليه حُكماً بالإستسلام والصمت الأبدي عن المطالبة بحقهِ المُضاع ، الثورات لا سقف لضحاياها ولا نهايات لنزف الدماء فيها قبل الحصول على المطالب والغايات ، أما وقد آثرنا السلامة و(خدَّرنا) الشارع والجماهير حينها بفكرةٍ لا تمُت إلى المنطق بصلة ، مفادها أن القضاء على حُكمٍ إنقلابي عسكري وشمولي يُمكن أن (يُستبدل) بحكم إئتلافي مدني وعسكري يقودُ في النهاية إلى (مدنية) الدولة وديموقراطية السُلطة ، فذاك لعمري هو العبث بعينهِ ولا شيء غيرهُ ، ومن قال أن دولة الإنقاذ البائدة لم تتجه إلى نفس المعادلة أو المعالجة ، فقد كانت منذ بدايتها وحتى سقوطها إئتلافاً تآمرياً مُعلناً بين العسكر والمدنيين ، بل أنهم يتفوَّقون على الإئتلاف الإنتقالي الحالي إنطلاقاً من كونهم ينتمون إلى تيار سياسي وآيدلوجي واحد ، طالما ساعدهم على توحيد الرؤى والتناغُم التخطيطي والتنفيذي لمشاريعهم اللا وطنية واللا إنسانية.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.