(ثمةً أوقات يكون فيها الحذاء أهم من بوشكين)
صديقي المبروك يتمثل -في الواقع – بمقولة ديستوفسكي هذه في كل اربعة أو خمسة أشهر حين يترك مقعده في القيادة السياسية لإحدي كتل التحالف الحاكم بالخرطوم و يتنازل -طائعاً- عن مساهمته في تحرير أرقي صُحفها ويترك قلمه وقُرَّاءه ويولي وجه شطر البادية، نحو السِعِن ومضارب الناس والبَهَم ، يذهب الي البادية ليفكر في علاجات- ومخارجات – لمشاكل المركز ، و يعود للمركز ليفكر في حلول لتعقيدات وشائج البادية .
ينحو المبروك منحي صاحب الفجر الكاذب في نقده للنخبة – وما هي بنخبة – ويرى بأن عطبها مستقر ومستمر ولكنه قابل للإصلاح عبر المؤسسات السياسية نفسها ولكن بقيادات بديلة لا تنأي عن العمل العام ، أما النخبة الحاكمة فيتعامل معها المبروك بوصية جعفر النميري العظيمة لسفيره في القاهرة بعد كامب ديڤيد في حفل الإسرائليين (خلوه يمشي الإحتفال لكن ما يتعشى)، فالمبروك يمارس السياسة بطريقتها التنظيمية التي عهدها الناس ولكن يحتفظ لنفسه بحق النقد -وحق الرد كذلك- وذلك لنزوعه البدوي نحو الخيارات البديلة وعدم خضوعه لقساوة التنظيم وضبط المؤسسة، وربما أيضاً لعدم إحتفائه -وربما لعدم إعترافه- بإمكانية الوصول الي الكمال في السياسة وفي بقية ضروب الحياة و يري -كما كان كانط يري أيضاً- أن (من الضلع المعوج للبشرية لم ينتج أي شئ مستقيم تماماً)
في (حدث في لاس فيغاس)، إصدارته الأخيرة، يتهادي المبروك في ثلاثية متوترة ( مُدن العالم الاول ومركز العالم الثالث ثم باديته التي لا تعترف بكلتيهما) ، بين لاس فيغاس والخرطوم وبادية الكبابيش في حالة نزوع دائم للحركة كما البندول يصيح المبروك بصحبه:
*ذراني و الفلاة بلا دليل/ وجهي و الهجير بلا لثام/
فإني أستريح بذي و هذي/ وأتعب بالإناخة و المقام.
ما خطَّه محمد المبروك في مطبوعه الأول عصي علي التصنيف لأمثالي – غير المتخصصين – فلا هي مجموعة قصصية غير مرتبطة برباط بيِّن ولا هي برواية متصلة ولا هي بين ذلك، ولكن يتضح لكل ذي نظر ذلك الخيط الرفيع الناظم من الحنين المشجون الذي يسبك -وينضم – حباب و حبات المجموعة مع بعضها لذلك فالمجموعة -لمن تذوقها حقيقة- هي مثل غيوم المغيب الأرجوانية عند كونديرا فهي (قادرة علي إضفاء ألق الحنين علي كل شئ .. حتي علي المقصلة) .
لا تُلقِ السمع – يا صديقي المبروك – لمن يحدثك بأن عليك الإنقطاع و التفرغ للسياسة و بإن الكتابة في هذه الإيام العجاف هي ( شغلة عيال الحِلِة ) ، أُكتب ، فالكتابة و منتجات الثقافة و مَضَاء الفكر هي التي تُغير البؤس و ذلك حينما تستقر في أفئدة السياسين والقادة ، فهدوء مكتب الأكاديمي – كما يؤكد هاينه – يمكنه أن يدمر حضارة ، إذن فيمكنه أن يبنيها كذلك .
___
*هندسة، جامعة الخرطوم
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.