أستقر أسامة بن محمد بن عوض بن لادن فى الخرطوم مع أسرته فى شهر أبريل 1991م وغادرها فى مايو 1996م. وقد انخرط بن لادن فى مشاريع إستثمارية فى السودان ولكنه أستمر أيضاً فى متابعة ما أختمر فى ذهنه منذ حرب أفغانستان فى الثمانينات من القرن الماضى فى محاربة من كان يراهم أعداء للإسلام والمسلمين شرقاً وغرباً. أما وقد فعلت الحرب الباردة فى نهاية المطاف فعلها فى الإمبراطورية السوفيتية فأنكمشت، فأنه ركز مخططاته الإرهابية على الولايات المتحدة: مصالحها وجنودها ومدنييها وسفاراتها وسفنها الحربية التى تجوب البحار. بل أنّعملياته الإرهابية توسعت إلى داخل الولايات المتحدة الأمريكية فى نيويورك عاصمة المال وعاصمة الدبلوماسية الدولية متعددة الأطراف وعلى العاصمة الأمريكية واشنطن نفسها أو أطرافها. وقد شن أول هجوم له على برجى مركز التجارة الدولى فى مانهاتن فى 26 فبراير 1993م وبيل كلينتون يتلمس طريقه فى شهريه الأولين من ولايته الأولى رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية.
تم إدراج السودان فى القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب فى أكتوبر 1993م، وبسبب إدراجه فى هذه القائمة لم يعد السودان يتمتع أمام المحاكم الأمريكية بالحصانة السيادية التى يوفرها القانون الدولى. عدا الهجوم الذى شنه رجال بن لادن على مقر الحرس الملكى السعودى فى الرياض والذى أستهدف الأمريكيين الموجودين فيه فى الثالث عشر من نوفمبر 1995م، فأن المحاكم الفدرالية الأمريكية بعد قيام وزارة الخارجية الأمريكية بإدراج السودان فى القائمة المذكورة ، قد وجهت له الإتهام فى العمليات التى قام بها بن لادن من خلال تنظيم القاعدة الذى أنشأه. ومؤخراً، وبعد التسوية القضائية التى تم التوصل إليها بحجم التعويضات التى يتوجب على السودان دفعها للضحايا وأسرهم، لتسبّبه فى الهجومين اللذين طالا سفارتى الولايات المتحدة فى كلّ من نيروبى دارالسلام فى أغسطس 1998م، والهجوم على المدمرة الأمريكية (كول) قرب السواحل اليمنية فى عدن فى أكتوبر 2000م، فأن عضوى الكونجرس الأمريكى من الحزب الديمقراطي السيد شارلس شومر زعيم الأقلية الديمقراطية فى مجلس الشيوخ وروبرت مينيندز قد أعترضا على التسوية بإعتبار أنها لاتشمل ضحايا الهجوم الإرهابى الكبير على برجى مركز التجارة فى مدينة نيويورك فى 11 سبتمبر 2001م.
يأتى هذا الإعتراض من عضوى الكونجرس من الحزب الديمقراطى رغم أن حكومة السودان الحالية قد أعادت تأكيد سابقتها وأعلنت بوضوح أن دفع هذه التعويضات لايعنى إقراراً بالمسئولية الجنائية أو المدنية عن الهجمات الإرهابية هذه وأنّ ذلك يأتى كترتيب براجماتى لتخليص البلادمن هذه القائمة التى تكبله إذ أنها ورغم كونها عقوبة فردية أحادية unilateral ورغم كونها ممارسة لإختصاص قضائي خارج الحدود الإقليمية للولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنها فى الواقع العملى شديدة الوطأة يلتزم بها وبحرص النظام المالى والتجارى الدولى بدرجة كبيرة واسعة تصل حد التزيّد over-compliance. هذا الإعتراض من هذين العضوين الديمقراطيين يعيدنا فى السودان إلى السؤال الأساسى:- كيف ولماذا ترتبتهذه المسئولية الجسيمة على البلاد؟
بالتأكيد فإن هذه المسئولية لم تترتب لأن السودان خطط أو شارك فى التنفيذ بطريق مباشر أو غير مباشر وإنما بناءً على قاعدة قانونية عامة فى كل النظم القانونية الرئيسية فى العالم وهى قاعدة السببيه Causation. فقد تم ربط وقوع هذه الهجمات بإعتبارها محصلة سببية مترابطة متراكمة لفترة وجود بن لادن فى السودان التى أمتدت لخمس سنوات. وعموماً فأنه ووفق قاعدة السببية فأنها تستخلص فى القانون العام من الترابط وعدم الإنقطاع بين السبب والنتيجة وأن يتصل السبب بالنتيجة إتصالاً متسلسلاً ضرورياً أى إتصال الحلقات المتسببة بالنتيجة الماثلة. وإذا علمنا أن بن لادن قد أحكم شبكته الجهادية فى حرب أفغانستان فى الثمانينات من القرن الماضى وهى ذات الشبكة بعد توسيعها وذات الخبرة المستمدة من إنشائها وإنغماسها فى أعماله الإرهابية فى التسعينات وإذا علمنا أيضاً أن هجماته الإرهابية على السفارتين فى أغسطس 1998م وعلى المدمرة كول فى أكتوبر 2000م وعلى برجى مركز التجارة الدولى فى منهاتن فى سبتمبر 2001م والتى راح ضحيتها جميعاً الالآف من الأبرياء – إذا علمنا أن الجهمات الثلاثة المذكورة قد وقعت بعد مغادرة بن لادن للسودان وفق تفاهم صريح مع الإدارة الأمريكية فى ذلك الوقت وهو تفاهم له شواهده ويمكن إثباته، فأن الإتصال والترابط المطلوبين بين السبب والنتيجة يكون غير موجود لإنقطاعه الظاهر.
بالطبع فأنىلا أنشد من وراء ذلك إلى مناهضة قاعدة السببية ولكننى أسعى لبيان حقيقة إنقطاعها فيما يتصل بهذه الأحداث وفيما يتعلق بالسودان. كما أسعى لتوضيح أن ثمة جهات أخرى ينطبق على فعلها أو إمتناعها هذا الترابط بين السبب والنتيجة وهى وقوع الهجمات والتفجيرات الإرهابية وما أسفر عنه من وقوع ضحايا وإصابات وخسائر. ولإثبات ذلك فإننى أسوق هنا عدداً كبيراً من الوقائع والإستنتاجات التى توصل إليها كبار المسئولين فى مجتمع الإستخبارات الأمريكي طوال فترتى رئاسة الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون من يناير 1993م إلى يناير 2001م وإمتداداتها إلى عهد خلفه جورج بوش، إضافة إلى النتائج التى توصلت إليها لجنة التحقيق الأمريكية التى أنشأها الكونجرس الأمريكى عن هجمات 11 سبتمبر. وقد يكون مثيراً للدهشة أن جهازين إستخباريين عريقين معروفين عالمياً يخشاهما تقليدياً المجرمون والإرهابيون خارج الولايات المتحدة وداخلها وهما وكالة الإستخبارات الأمريكية C.I.A. ومكتب التحقيقات الفدرالى F.B.I. قد أنشغلا فى وقت عصيب واجهت فيه الولايات المتحدة تحديات إرهابية حقيقية بالتنافس والكيد الشخصى والتحيز المهنى والبروقراطية المكبلة بحيث يمكننا القول إن حالات من التقاعس والإمتناع (Omission) قد كانت سبباًcause فى نجاح تنفيذ أعمال إرهابية داخل وخارج الولايات المتحدة. ومن المهم الإشارة إلى أن التسبب أو السببية فى مفهومها القانونى لا تشترط بالضرورة إقتران الفعل بالنية بما يعنى أن التقصير والتقاعس والإمتناع يكفى للتسبب فى العمل الإرهابى دون قيام الركن المعنوى وهو القصد أو النية. ولايقتصر هذا التسبب على مجتمع الإستخبارات الأمريكى إذ نرى صحفياً مرموقاً مثل ريتشارد مينيتر يتهم فى كتابهLosing Bin Laden بل كلينتون بالتقصيروالتقاعس والإمتناع الذى أدى وتسبب فى نجاح هذه العمليات الإرهابية. ليس ذلك فحسب، بل أن تقرير لجنة التحقيق الأمريكية عن هجمات 11 سبتمبر التى تشكلت فى نوفمبر عام 2002م من عشرة أعضاء فى الكونجرس بالمناصفة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي والتى ترأسها توماس كين أحد حكام ولاية نيوجرسى السابقين، يشير إلى أوجه التقصير المتعددة هذه ويحصيها كأسباب قادت إلى وقوع هذه الكارثة الإرهابية. ويخلص التقرير صراحة إلى أن فشل المخابرات المركزية ومكتب التحقيقيات الفدرالى أدى إلى وقوع هجمات 11 سبتمبر (والتى كان يمكن تجنبها).
هناك سؤالان على جانب كبير من الأهمية:-
الأول أثاره ريتشارد مينيتر عن التعاون مع الإستخبارات السودانية وهل كان سيغير وجه الأحداث لو تمّ.
والثانى أثارته مجلة VANITY FAIR الشهيرة فى عددها ليوم 19/12/2008م عن غياب التعاون والتنسيق داخل مجتمع الإستخبارات الأمريكى وذلك على الوجه التالى:-
الأول:–
- ماذا إذا كان الرئيس كلينتون قد أستجاب للعروض العديدة التى قدمها السودان وتسلمت أجهزة الإستخبارات الأمريكية الملفات الإستخبارية السودانية عام 1997م؟
الثاني:-
- هل كان فى الإمكان منع وقوع هجمات 11 سبتمبر إذا كان المسئولون عن حمايتنا قد تعاونوا بشكل أفضل؟
بالطبع فإن تقصير أحد الطرفين أو إخلاله لايكون سبباً كافياً قائماً بذاته لإخلاء مسئولية الطرف الآخر فى أية دعوى. غير أن هذا القول وهذا الحكم يكون ناقصاً ومخلاً هو نفسه إن لم نضع فى إعتبارنا سؤالاً إفتراضياً آخر وهو (ماذا لو أن عروض السودان بالتعاون قد قبلت وتم العمل بها ولكن الهجمات الثلاثة “تفجير السفارتين وتفجير كول وهجمات 11 سبتمبر” وقعت رغم ذلك؟
عندها، فإن دمغ السودان بالتسبب فى الهجمات وإثباته كان سيكتسب المعقولية ويتخطى الحاجز المنطقى والقانونى الأول والأساسى والجوهرى!
إن رفض العروض العديدة جميعها فى مناسبات عديدة والتى قدمها السودان دون أن يتوانى أو يصيبه الفتور عامل حاسم من العوامل التى تنفى عنه تسببه فى هذه الهجمات.. في رأيى أنه لو تمَّت مراعاة موجبات المحاكمة العادلةDue process of law لما تعسف القضاء الأمريكى لهذه الدرجة وهو تعسف أعنا عليه للأسف فى الفترة الأولى بالتردد فى قبول الإختصاص الأمريكى كأمر لا مفر منه فى هذه الظروف.
ومن الأهمية بمكان الإشارة مرة أخرى إلى أن عروض السودان بالتعاون والتنسيق سبقت وقوع الهجمات الإرهابية الثلاثة التى قضت المحاكم الأمريكية بمسئولية السودان عن إثنتين منها. ويسعى الديمقراطيون حالياً للأسف وفى خضم إعتبارات سياسية داخلية إلى إضافة 11 سبتمبر إليها كشرط للقبول بتسوية نهائية لمطالبات متوالدة متصاعدة بالتعويض. لذلك فإن الوقوف على تفاصيل إخفاقات الإدارة الأمريكية فى فترتى رئاسة كلينتون خاصة وهى إخفاقات غير مبررة تصبح ضرورية لعكسها سياسياً فى الإتصالات الثنائية، ولعكسها قانونياً وفق مقتضى الحال.
(2)
المتسببون فى الهجمات الإرهابية على أمريكا
وقضيىة التعويضات
فى تلك الفترة العصيبة التى شن فيها تنظيم القاعدة بقيادة بن لادن هجماته بدءاً من أول هجوم للقاعدة على أهداف أمريكية فى عدن فى ديسمبر 1992م وإنتهاءاً بهجمات 11 سبتمبر، تقدمت الحكومة السودانية كما أشرنا بعروض جادة للتعاون مع المخابرات المركزية الأمريكية والأجهزة الأخرى قوبلت بالإستهانة أحياناً، وبالرفض الصريح أحياناً وقاد ذلك إلى وقوع هذه الهجمات بالتسبب فيها. وصلت هذه العروض والمبادرات قمتها فى شهر مارس 1996م وقد أطنبت الشهادات الأمريكية قبل السودانية فى بيان تفاصيلها. ولابد من أن نذكر أن إمكانيات جهاز الأمن السودانى كانت على درجة عالية من الجودة إذ توفّر على معلومات تفصيلية فى غاية الأهمية عن الإرهابيين من مختلف التنظيمات ومن تنظيم القاعدة بصفة خاصة مستفيداً من وجود بن لادن وأعوانه فى الخرطوم سنوات خمس. وفى المقابل، لم يتمكن الأمريكيون من متابعة أنشطة بن لادن والقاعدة طيلة هذه السنوات وإلا من بعد إنتقاله وبترتيب مشترك مع جهاز الإستخبارات السودانى إلى أفغانستان حيث كان للأمريكيين وجود تقليدى ونشاط محموم منذ الثمانينات.
أوردت مجلة VANITY FAIR فى عددها بتاريخ 30 نوفمبر 2001م فى مقال للصحفى البريطانى ديفيد روس أن المخابرات السودانية قدمت المعلومات عن معظم الأسماء الواردة فى القائمة الأمريكية التى تضم إثنين وعشرين من الإرهابيين الأكثر خطورة والمطلوبين من الولايات المتحدة وفى ذلك يقول السفير الأمريكى تيم كارنى (أنه كلما فتح السودانيون باباً أمعنّا فى صدهم).
يتعضد هذا القول بما أورده مينيتر فى كتابه بأن جهاز المخابرات السوداني قدم معلومات عن مئات الإرهابيين الذين صنفهم بمن فيهم الذين نفذوا لاحقاً هجمات أغسطس 1998م على سفارتى الولايات المتحدة فى نيروبى ودار السلام. هذه حجة قوية داحضة تثبت أن السودان بفضل هذه المبادرة كان يمكنه أن يكون سبباً فى كشف وإجهاض عمليتى نيروبى ودار السلام وليس سبباً فى وقوعهما!!
تترى الإفادات عن الفرص التى هيأها السودانيون وأهدرها الأمريكيون. جانب من ذلك نجده فى إفادات السيد منصور إعجاز وهو ثرى أمريكى من أصول باكستانية كان من الممولين لحملة الحزب الديمقراطي لإعادة إنتخاب بل كلينتون عام 1996م وبإعتباره مسلماً – وهو مدخل يستغله كثيرون – سعى لإرساء تفاهمات بين الجانبين السودانى والأمريكى تفضى لدعم التعاون فى مجال مكافحة الإرهاب. أفاد المذكور بأن المخابرات السودانية قد أطلعته على معلومات مفصلة عن بن لادن ورجاله وتفاصيل عن تحركاتهم ووسائلهم. يقول مينيتر إن وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفدرالى كان يمكنهما إذا تسلحت بهذه التفاصيل أن تتعرف على أسماء مئات من عناصر القاعدة ومتابعة تحركاتهم وأن العديد من هؤلاء قد شاركوا فى عمليتى السفارتين فى عام 1998م.
قبل وقوع التفجيرات الثلاثة الكبرى وفى عام 1996م تحديداً، حاول السودان أن يتخلص من عبء وجود بن لادن فى أراضيه وفعل. وللقارئ الكريم أن يتصور ماذا كان يعنى أن يقوم الأمريكيون فى المقابل بالقبض على بن لادن أو وضعه فى مكان وبلد يمكن السيطرة الكاملة عليه فيه بدلاً من الفشل فى أقتفاء أثرهفى تضاريس أفغانستان وإفشال مخططاته للعمليات الإرهابية الناجحة التى شنها فى 1998م و 2000م و 2001م!! والأدلة الموثقة التى تثبت ذلك موجودة ومتوفرة لدى أجهزة المخابرات فى البلدين وقد تناولتها الصحافة الأمريكية بكثير من التفصيل. وقد ذكر مستشار الأمن القومى الأسبق ساندى بيرقر أن قناعة مكتب التحقيقات الفدرالى بأنها لا تتوفر على أدلة كافية لإتهام بن لادن وإدانته، تسببت فى تردد إدارة الرئيس كلينتون فى القبض على بن لادن وترحيله.
هذه واقعة حقيقية غير أن تردد إدارة كلينتون وإمتناعها عن القيام بواجبها لايشفع لها هذا التبرير بالطبع فإلقاء اللوم على الآخرين لايعفيها من المسئولية فى نهاية المطاف. وقد صدق كلينتون لاحقاً عندما صرح لصحيفة Sunday Times فى 6 يناير 2002م بعد أن غادر سدة الرئاسة بأن فشله فى إدراك (Grasp) سلسلة العروض المقدمة من قادة السودان (كان أكبر أخطاء رئاستى) . والأمر كذلك، فكيف لاتتحمل الحكومة الأمريكية عبء تعويض الضحايا؟
إضافة إلى ماتقدم، وفى عددها الذى سبقت الإشارة إليه بتاريخ 19 ديسمبر 2008م، أوردت مجلة VANITY FAIR، أنه عندما عقد الرئيس كلينتون إجتماع (التسليم والتسلم) التقليدى مع الرئيس جورج بوش فى يناير 2001م، أفضى الأول للأخير (بأن فشله فى القبض على بن لادن أو القضاء عليه هو من أكبر بواعث الندامة عنده).
وكما سنرى فأن إنشغال جورج بوش بما رسمه له (المحافظون الجدد) أمثال ديك شينى ورامسفيلد من شن حرب شاملة فى الشرق الأوسط بإسم القضاء على الإرهاب قد لهاه وصرفه أيضاً عن القضاء على بن لادن والقاعدة قبل وبعد 11 سبتمبر 2001م.
هذه الإقرارات التى أتينا على ذكرها يصعب بل ويستحيل دفعها أو دحضها وتُرتب مسئولية قانونية محددة على من أقر بها بل ويمكن في رأيى أن تبرئ ساحة من قام بتوفير المعلومات وبيان أوجه التعاون التى يتوجب الأخذ بها وعرضها المرة تلو الأخرى! وقد يكون لمستشار الأمن القومى آنذاك ساندى بيرجر من الوقائع ما يحاول أن يبرئ بها ساحة الإدارة الأمريكية والرئيس كلينتون بإلقاء اللوم على مكتب التحقيقات الفدرالى ولكنه لم يكشف عن ذلك تحميلاً للمسئولية على السودان. بنفس القدر حمّل ساندى بيرجر وكالة الإستخبارات الأمريكية جانباً آخر من المسئولية بالقول إن مديرالوكالة آنذاك جورج تنت جمد خطة القبض على بن لادن أو قتله فحال ذلك دون وصولها للرئيس لإتخاذ القرار المناسب بشأنها.
لقد وقعت أخطاء كبيرة فى دولة كبرى مثل الولايات المتحدة بلغت درجة عدم إلمام الرئيس الأمريكى بمعلومات حيوية فى مجال حيوى مثل محاربة الإرهاب الدولى الذى تجرأ لدرجة تهديد أرواح مواطنيها ومصالحها. فعلى سبيل المثال أورد مينيتر فى كتابه أن محاولة تدمير السفينة الحربية THE SULLIVANS والتى تمت أيضاً على السواحل اليمنية فى الثالث من يناير 2000م والتى حال دون تنفيذها غرق القارب الذى أستقله الإرهابيون تحت ثقل حمولة المتفجرات – لم يعلم البيت الأبيض بها إلا بعد تفجير المدمرة كول فى نفس المنطقة فى 12 أكتوبر من نفس العام أى بعد مُضى سبعة أشهر ونصف بالتمام والكمال!
بعد ضرب المدمرة كول مباشرة عُقد إجتماع رفيع فى واشنطن يسمى إجتماع الكبار (The Principals) شارك فيه وزير الدفاع والخارجية وليام كوهين ومادلين أولبرايت والمدعى العام جانيت رينو ومدير وكالة المخابرات المركزية جورج تنت وآخرون.الآن وقد بلغ العداء بين دولة كبرى ذات نفوذ عسكرى وإقتصادى وسياسى ودبلوماسى عظيم وبين القاعدة مبلغاً تقاصر عنه أعداؤها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فقد كان المتوقع هو إجازة خطة محكمة وتنفيذها لضرب القاعدة. لم يحدث ذلك! إذ وقفت أسباب معلوماتية وقانونية ودبلوماسية أثارها الكبار كل حسب مرجعيته دون إجازتها. لم يكن ذلك إلا تمهيداً للضربة التالية وسبباً لوقوعها بعد فترة وجيزة فى 11 سبتمبر 2001م والتى أزهقت فيها أرواح مدنيين أبرياء بالآلاف.
كل ذلك وكما أعدنا ذكره وكررنا تقابله إتصالات وعروض مستمرة من السودان للتعاون والذى لم يكتف بإجراء الإتصالات على المستوى السياسى مع الإدارة الأمريكية وعلى المستوى الإستخباراتى المهنى مع أجهزة الإستخبارات وإنفاذ القانون النظيرة. فقد بعث الرئيس السابق السيد عمر البشير رسالة فى 5 أبريل 1997م لعضو الكونجرس لى هاميلتون المتخصص (والمؤثر) فى السياسة الخارجية عرض فيها تعاوناً كاملاً مع السلطات الأمريكية. ظل (حوار الطرشان) هو ما يسمُ العلاقات الثنائية حتى فى جوانبها العمليةالمهنية الضرورية ذات البال والخطر! أعود لمجلة VANITY FAIR لأقتبس منها هنا ما أوردته فى عددها الأول من ديسمبر 2001م بعنوان (كلينتون يرفض التقارير السودانية عن القاعدة):-
“رفضت إدارة كلينتون عروض تقديم التقارير الإستخباراتية السودانية والتى كان من شأنها توفير معلومات حيوية عن بن لادن وشبكة تنظيم القاعدة والتى كان يمكن بفضلها وقف هجمات 11 سبتمبر وتفجيرات السفارتين عام 1998م”.
لقد كانتتقارير المخابرات السودانية عن أنشطة القاعدة وتتبع هذه الأنشطة أفضل كماً ونوعاً من أية تقارير أخرى تلقتها أجهزة الإستخبارات الأمريكية المختلفة من مصادرها الخاصة أو عن طريق التعاون مع أجهزة الإستخبارات العالمية. ولم يكن التعاون الأمريكى فى مكافحة الإرهاب فى هذه الفترة مع أجهزة الإستخبارات العالمية أفضل كثيراً من تعاونها ورغبتها فى التعاون مع السودان وأجهزته، فأنه وبذات القدر لم تستفد الأجهزة الأمريكية مما وفرته لها أجهزة المخابرات الألمانية والإسرائيلية والبريطانية والأسبانية والأماراتية وحركة طالبان.
ظل التخبط صفة لازمة لتعامل كافة أجهزة الإستخبارات الأمريكية فى عهد كلينتون مع المخاطر الإرهابية الحقيقية التى جسدها بن لادن والقاعدة. وفى كثير من الأحيان أفتقرت وكالة الإستخبارات المركزية كما أفتقر مكتب التحقيقات الفدرالى إلى المعلومات الأساسية المطلوبة والقدرةعلى تحليل المعلومات وفق رؤية محيطة، ووفق مبدأ التحوط للأسوأ فى هذه الحالات. وقد يكون من بواعث الدهشة والإستغراب أن فريق مكتب التحقيقات الفدرالى فى اليمن (لم تقبل إدارة كلينتون دعوة السودان لإرسال فريق من مكتب التحقيقات الفدرالى إلى السودان) – قد خلص من التحقيقات التى أجراها إلى عدم مسئولية بن لادن عن الهجوم على المدمرة “كول”. هذا هو تقييم مكتب التحقيقات الفدرالى للهجوم على المدمرة فى 12 اكتوبر 2000م والذى راح ضحيته 17 من بحارتها وأصيب 39 منهم بجروح بالغة وأعتبر أكبر هجوم على سفينة حربية أمريكية منذ الحرب العالمية الثانية. ونلاحظ فى هذا الهجوم الأثر التراكمى للتقصير الأمريكى الشنيع الذى أشارت إليه أيضاً لجنة التحقيق الأمريكية فى أحداث 11 سبتمبر. وقد شارك فى الهجوم على المدمرة كول- كمثال على هذا التقصير متعدد الوجوه –أحد المطلوبين فى تفجير السفارتين فى أغسطس 1998م. ويحق لنا فى كل مرة تبرز إلى السطح مثل هذه الشواهد أن نسترجع شواهد التقصير والإمتناع الأمريكى المميت عن الإستفادة من عروض التعاون التى ظلت تترى قبل وقوع هذه الأحداث وتداعى تأثير كل حادث على الآخر والذى شكل فى النهاية شللاً أدى إلى العجز عن إجهاض هجمات 11 سبتمبر وهو ما كان متاحاً بسهولة.
هذا التخبط فاقمه التنازع البيروقراطى على الإختصاصات فى مجتمع الإستخبارات الأمريكى والنزوع لحجب كل جهة المعلومات التى تحوز عليها عن الجهة أو الجهات الأخرى والإفتقار الشديد إلى التعاون والتنسيق!
” تباً لك. لقد حصلتُ عليها وسأحتفظ بها. إنها لي ، وأنا مكتب التحقيقات الفدرالى”.
هذا ما نقل عن جون أونيل المسئول الأول عن مكافحة الإرهاب فى مكتب التحقيقات الفدرالى فى رده على مسئول وكالة الإستخبارات المركزية! فى موقفٍ مماثل، ثم ضبط فرد يتبع لمكتب التحقيقات الفدرالى وقد أخفى وثائق تحت قميصه حصل عليها من وكالة الإستخبارات المركزية أثناء عمله (التنسيقى) فى الوكالة وكان يزمع تسليمها للسيد جون أونيل فى نيويورك! يقول رئيس المكتب الخاص بمتابعة بن لادن والقاعدة فى وكالة الإستخبارات المركزية السيد (شويا) أن الوكالة قد قدمت لمكتب التحقيقات الفدرالى نحو سبعمائة إلى ثمانمائة طلب للحصول على معلومات دون طائل. لم يكن الأمر بأفضل من ذلك فى العلاقة الأفقية والرأسية بين كل الوزارات والإدارات المعنية ومجتمع الإستخبارات. وقد أثر ذلك على قيمة وجودة التحقيقات التى أعقبت الهجوم على المدمرة كول. على سبيل المثال وفى أعقاب ذلك الهجوم منعت السفيرة الأمريكية فى اليمن السيد جون أونيل المشار إليهوالذى كان على رأس الإدارة المعنية لمكافحة الإرهاب فى مكتب التحقيقات الفدرالى من العودة إلى عدن لمتابعة التحقيقيات فى الهجوم!.
ويقول السيد (شويا) أنه قد قدم معلومات مفصلة عن مكان وجود بن لادن ومدة وجوده فى أفغانستان فى مناسبات مختلفة فى عام 1998م وأنه فى مناسبتين فى فبراير ومايو 1999م حدد مكان بن لادن بدقة لضربه أو للقبض عليه دون أن يحرك ذلك ساكناً! وقد لخص شويا كل ذلك بالقول أنه قام في نهاية المطاف بمخاطبة الكونجرس مفيداً بأن نحو عشرة فرصٍ قد أهُدرت للقبض علي بن لادن أو قتله.
لقد اصبحت المؤسسات المختلفة في الحكومة الأمريكية تنحى باللائمة علي بعضها البعض في العجز عن حسم مسالة بن لادن، وبلغ التنافر الشديد والإنقسام بين أكبر إدارتين أمريكيتين لمواجهة الإرهاب المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفدرالي درجة أن أُطلقت عليه إِسم (سور الصين The Chinese Wall) وأوردت لجنة التحقيق الأمريكية في تقريرها الختامي عن هجمات سبتمبر أن الحجب المتبادل للمعلومات بين هذين الجهازين ((أضربالأمن القومي الأمريكي و أدى لنجاح عمليات إرهابية كبرى منها 11 سبتمبر ))
يشير تحقيق اللجنة كذلك إلي تداخل وتشابك وقائع بعينها أسهمت في حدوث أثر تراكمي فقادت إلي وقوع هجمات 11 سبتمبر منها فشل محاولة قتل بن لادن في منطقة خوست بأفغانستان عندما تم استهدافها ومصنع الشفاء للأدوية في قلب الخرطوم في ضربتين متزامنتين بتسعة وسبعين صاروخاً في 1998/8/20م أي بعد ثلاثة عشر يوما من تفجير سفارتي الولايات المتحدة فينيروبى ودار السلام.
وطوال عام 2001م وفي عهد إدارة الرئيس جورج بوش وحتى يوم 11 سبتمبر من ذلك العام توالت الإشارات الصريحة الواضحة المباشرة لوجود مخطط إرهابى لضرب أهداف أمريكية داخل التراب الأمريكى بإستخدام طائرات مدنية. لم تحرك هذه الإشارات والتحذيرات المتوالية ساكناً ومضت الأمور قدراً مقدوراً إلي نهايتها المأساوية!. وفي ذلك ومنذ ربيع عام 2001م يذكرمدير الإستخبارات المركزية أنه في أربعين مرة من لقاءاته الرسمية مع الرئيس جورج بوش أخطره بتوقع هجماتٍ وشيكة. وخلال شهر أغسطس أي قبل شهرٍ واحد من هجمات 11 سبتمبر ظلت التقارير اليومية المرفوعة للرئيس كل يوم تشرق فيه الشمس تنبه بأستمرار إلي هذا الحظر الداهم من القاعدة.
لقد وقع تفجير المدمرة كول في 12 اكتوبر2000م قبل نحو ثلاثة أشهر من إنتهاء ولاية الرئيس كلينتون مختتماً بذلك فترةً مشهودةً من الفشل في مواجهة الإرهاب. بعد ذلك وبعد 11 سبتمبر وكما سلفت الإشارة فقد شنت الإدارة الجمهورية في عهد جورج بوش الإبن ما أطلقت عليه إسم (الحرب علي الإرهاب) والتي قامت ليس علي أساسي تحليلي موضوعي وإنما علي أساسي (أخلاقي) كما قال محمود محمداني في كتابه((دارفور: منقذون وناجون
–السياسة والحرب علي الإرهاب)) فانقسم العالم في نظر الإدارة الجمهورية إلي فريقين لا ثالث لهما : أشرار و أخيار.
تعقدت الامور أكثر في السودان وتدخلت إعتبارات واستراتيجيات خارجية وأصبح الفكاك من قبضة رعاية الإرهاب والعزلة الدولية أمراً عسيراً دونه خرط فى القتاد. ظل بن لادن طليقاً وظلت القاعدة في نشاطها ولم تتمكن الإدارة الجديدة في عهد جورج بوش (من القبض علي بن لادن أو القضاء عليه) ولم تتمكن من إصلاح أخطاء سلفها والمبادرة دون إضاعة مزيد من الوقت فى محاربة بن لادن والقاعدة. أشارت لجنة التحقيق الأمريكية إلى هذه المعضلة وأنها لم تساعد فى مواجهة تهديدات القاعدة وفى تجنب الهجمات الصاعقة فى 11 سبتمبر. ويقول ريتشارد كلارك المسئول الرئيسى عن محاربة الإرهاب فى البيت الأبيض أنه أعترض على قناعة جورج بوش فى اعتبار الحرب على الإرهاب جزءً من إستراتيجية الإدارة فى الشرق الأوسط لأنها أغفلت جهود القضاء على القاعدة وبن لادن كهدف آنى مباشر ينبغى بلوغه بالسرعة المطلوبة. وأخيراً فضل ريتشارد كلارك تقديم طلب بإعفائه. لم يكن حظ ريتشارد كلارك بالطبع أفضل فى عهد كلينتون الذى عانى فيه من التخبط والتردد الذى سردنا أمثلة له. وقد زادت السيدة/ سوزان رايس فى عهد كلينتون من المصاعب الجمة التى واجهته وغيره من صانعى القرار فى وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومى ومجتمع الإستخبارات. وقد لعبت دوراً كبيراً فى حرمان الولايات المتحدة من (إستغلال) الفرص التى عرضها السودان كما حرمت السودان دون مبرر غير الغبن والكراهية والتحامل من إزالة العقبات المفضية إلى علاقات طبيعية معافاة مع دولة كبرى.
فى عام 1997م، أطلقت وزارة الخارجية الأمريكية مبادرة لضم السودان إلى الجهود الدولية لمحاربة الإرهاب. سرعان ما تحركت سوزان رايس وألتقت ضمن تحركاتها بريتشارد كلارك الذى لاحظ أن تحركاتها قد أصابت النجاح إذ تخلت وزارة الخارجية عن مبادرتها وألغته. يلاحظ القارئ الكريم أن عام 1997م كان حاسماً أو هكذا كان ينبغى أن يكون فيما يتعلق بالأعوام الأربعة التى تلته والتى شهدت الأحداث الإرهابية الأكثر جسامة فى تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية على الأقل. من مواقعها التى تنقلت فيها وتقلبت مساعدةً لوزيرة الخارجية مادلين أولبرايت وسفيرة لبلادها فى الأمم المتحدة ثم أخيراً مستشارة للأمن القومى لشرق أفريقيا، قاومت سوزان رايس كل مبادرات التقارب من الجانبين ومن ذلك منعها لفريق مكتب التحقيقات الفدرالى من زيارة السودان بدعوى أن السودان دولة إرهابية.
لقد حالت أسباب شخصية دون أن يستجمع كلينتون العزم الكافى لشن حرب ذات مردود على الإرهاب. لم تتوقف هذه الأسباب عند حد مقته الشخصى لمدير وكالة المخابرات المركزية السيد جيم وولسى الذى تولى هذا المنصب فى العامين الأولين لرئاسة كلينتون. ذلك إلى جانب ما أكتنف رئاسة كلينتون من مصاعب شخصية جمة ومنها فضيحة قبوله تبرعات فى إنتخابات عام 1996م والتى فاز فيها لفترة ثانية من مواطنين غير أمريكيين (وهو ما يحرمه القانون بالطبع). وتنبع أهمية هذه الأخيرة من أنها فى رأى البعض دفعته لصرف النظر عن النصائح التى قدمها منصور إعجاز (الأمريكى – باكستانى) والمتبرع أيضاً لحملة إعادة إنتخابه بضرورة التعاون مع السودان.
إضافة إلى ذلك وهذا مهم لتعلقه بسياسات مكافحة الإرهاب الكلية – فأن إدارة كلينتون ترى بصورة عامة التعامل مع قضايا الإرهاب بإعتبارها قضايا جنائية فحسب يتولاها مكتب التحقيقات الفدرالى وليست قضايا أمنية سياسية إحترافية تتولاها وكالة الإستخبارات المركزية.
ختاماً، فإن رفع إسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب والتى تعدها وزارة الخارجية الأمريكية هو بالنسبة للسودان أمر إستراتيجى وإنجاز وطنى كبير طال إنتظاره. ولولا إدراج السودان فى هذه القائمة فى عام 1993م لسبب لايتعلق بإسامة بن لادن ولا القاعدة لأستحال على المحاكم الأمريكية أن تمارس إختصاصها على السودان بسبب الحصانة السيادية. غير أن ذلك لايمنع الآن من إستغلال علاقة السببية التى رأينا وهنها بالشواهد للإستجابة لمطالبات بعض أعضاء الكونجرس أو مطالبات أسر ضحايا هجمات 11 سبتمبر دفع تعويضات لهم إلا إذا أصدر الكونجرس قانوناً بحصانة السودان من هذه المطالبات وأشباهها. وقد تقتضى إزاحة سيف دموقليس المسلط على رقابنا إعداد عدة سياسية ودبلوماسية وقانونية وإعلامية متسلحة بالوقائع والحجج.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.