استعرضنا في الحلقتين السابقتين أهمية العمل على المتاح في تنفيذ المشروعات القومية، وتطرقنا إلى مشروع تطوير مطار الخرطوم الحالي، كما تطرقنا إلى مشاريع التطوير التي تمت على عدة مراحل في مطار أديس أبابا كنموذج أدت إلى أن يصبح واحداً من أفضل المطارات في أفريقيا.
اليوم نتحدث عن نموذج آخر حتى نرسخ لطرحنا وندحص بعض الأفكار النمطية القديمة السائدة في هذا الإطار.
إذا عرفنا أن مساحة مطار الخرطوم الحالي هي اثنان ونصف كيلومتر مربع وعدد الركاب السنوي في حدود (3) ملايين راكب (حسب إحصائية العام 2018م) وبافتراض نمو سنوي بنسبة (7%)، يتوقع ألا يتجاوز عدد الركاب بعد عشر سنوات (6) ملايين راكب سنوي، لتقريب المقارنة أكثر، دعنا نأخد مثالاً آخر وهو مطار London City Airport وهو واحد من عدة مطارات في مدينة لندن اشهرها مطاري هيثرو وغاتويك.
يقع مطار LCY في شرق لندن وهي منطقة ازدهرت كمنطقة تجارية وسكنية بصورة كبيرة خلال العقدين الماضيين حيث ضمت مباني كبريات البنوك والموسسات المالية والتجارية العالمية في منطقة كناري وورف التي تتوسطها، فضلاً عن ضمها للعديد من المجمعات السكنية والترفيهية الحديثة والراقية. انشئ المطار لخدمة المنطقة ومدينة لندن بصورة عامة من خلال تسيير عدد من الرحلات القصيرة لعدد من المدن الأوروبية. تبلغ مساحة المطار نصف كيلومتر مربع، اي خمس مساحة مطار الخرطوم الدولي ويبلغ طول المدرج به كيلو ونصف وهي تعادل نصف طول مدرج مطار الخرطوم البالغة ثلاثة كيلومترات ولكن من المفارقات أن عدد الرحلات في مطار لندن ستي خلال العام 2018م بلغت (78) ألف رحلة نقلت من خلالها خمسة ملايين راكب (تجدر الإشارة هنا أن طول المدرج يقصِر استخدامه على طرازات الطاىرات الصغيرة والمتوسطة) بينما كان هذا الرقم في مطار الخرطوم حوالي (15.500) رحلة نقلت (3) ملايين راكب بمعنى أن مطار لندن ستي استقبل خمسة أضعاف ما استقبله مطار الخرطوم من الرحلات!.
من المفارقات أيضاً أن مطار لندن ستي يقع تماماً في منطقة مزدحمة للغاية ويقع المدرج القصير محاطاً بمياه نهر التيمز المشهور في لندن ولعمل توسعة في المطار للوصول بعدد الركاب إلى عشرة ملايين راكب سنوياً وعدد الرحلات إلى (150) ألف رحلة مستقبلاً، اضطرت الشركة المالكة للمطار بالقيام بالبناء فوق النهر لخلق مساحة (75) ألف متر مربع من اليابسة تكفي لبناء تيرمنال إضافي وزيادة منطقة وقوف الطائرات وذلك بميزانية قدرها (430) مليون جنيه استرليني ويعزى ارتفاع التكلفة للصعوبات الفنية في خلق المساحة المطلوبة واستقطاعها من داخل النهر.
إذاً برهنا بالأمثلة المعايشة أن حجج صغر مساحة المطار الحالية وموقعه الجغرافي هي حجج مردود عليها بناء على ما تقدم من أمثلة أحدها من الجوار القريب والأخرى من قلب أوروبا.
أخيراً نستعرض جدوى المشروع من النواحي المالية، إذا علمنا أن تشييد صالة في مساحة (40) ألف متر مربع تشمل طابقين كل بمساحة (20) ألف متر مربع يفترض ألا تتعدى (80) مليون دولار وإذا أضفنا على المبلغ أعلاه مبلغ (20- 30) مليون دولار أخرى لتهيئة وتطوير المدرج ومنطقة وقوف الطائرات وتأهيل المخازن والمنشآت الأخرى وإعادة تأهيل طريق المطار فإننا نتحدث عن مبلغ (100) إلى (110) مليون دولار وهو مبلغ زهيد جداً بالمقارنة مع الفوائد المرجوة من هكذا مشروع على المستوى القومي، ولكن دعنا نتحدث عن العوائد على المساهمين إذا افترضنا أن المشروع تم من خلال شركة مساهمة عامة تطرح أسهمها للمواطنين السودانيين وللشركات والبنوك السودانية.
كما ذكرنا انفا ان عدد الركاب حاليا حوالي ثلاثة ملايين راكب بافتراض زيادة في عدد الركاب بمعدل سنوي (7%)، وبافتراض ان صافي متوسط الرسوم التي تحصل من الراكب المسافر والقادم هي في حدود 7 $ (تشمل الرسوم على التذاكر وما تدفعه شركات الطيران نظير كافة الخدمات الارضية فضلا عن عوائد ايجارات المحلات وفروع البنوك والصرافات ومكاتب ايجار السيارات والفنادق والمقاهي والمطاعم وحقوق الاعلان ورسوم مواقف السيارات وغيرها)، نجد ان مبلغ 7 $ هو مبلغ متواضع جدا وربما يكون المتحصل على الراكب اعلى من ذلك بكثير.
بعملية حسابات بسيطة متضمنة تكلفة الانشاء والزيادة السنوية المفترضة في عدد الركاب والعوائد المتوقعة من كل مسافر او قادم خلال المطار، نجد ان تكلفة الانشاء يمكن ان تُغطي مباشرة عند العام الخامس على اقصى تقدير وعليه تكون عوائد السنوات الخمس المتبقية هي ارباح صافية بافتراض ان المطار مخطط له العمل فقط لمدة عشر سنوات حيث من المتوقع ان تصل العوائد الكلية المتراكمة عند السنة العاشرة الى مبلغ (300) مليون دولار مما يعني تحقيق “دولارين” كارباح خلال عشر سنوات لكل “دولار” مستثمر وهو عائد عالي بكل المقاييس.
بالطبع الحسابات اعلاه هي مجرد موشرات عامة مبنية على افتراضات نظرية وارقام يمكن ان تتغير قليلا حيث افترضنا ان مبلغ 7 $ هو العائد الصافي بعد خصم مصاريف التشغيل والصيانة وغيرها ولكن من الناحية الاخرى بنيت الارقام على تقديرات محافظة جدا فيما بتعلق بالنمو في عدد الركاب ولم نستصحب العوائد الكبيرة المتوقعة من عمليات الشحن الجوي والتي من المفترض ان تزيد بصورة كبيرة خلال السنوات القادمة والبلد تتجه نحو التركيز في الصادرات البستانية والحيوانية ذات القيمة المضافة العالية والتي عادة تشحن كميات مقدرة منها عن طريق الطيران.
الفكرة والقصد مما ورد من افكار واستصحاب للكثير من الشواهد والامثلة المعاشة هي كسر حاجز الرهبة من بعض الافكار وعدم الركون الى الافكار النمطية السائدة التي نتمسك بها حتى وان تغيرت الظروف والاحوال، فمن الافضل الاتجاه الى المتاح والممكن من مشاريع تتماشى وظروف المرحلة والنظر الى التغيير الايجابي الكبير الذي يمكن ان تحدثه خلال فترة زمنية قصيرة بدلا عن انتظار تنفيذ الاحلام الكبيرة (المشروعة طبعا) والتي ربما يستغرق تنفيذها سنوات طويلة نفقد خلالها فرصاً كبيرة كان بالامكان اغتنامها.
اخيرا اود ان اضيف ان الزمن المتوقع لهكذا مشروع اذا توفر التمويل والارادة والجدية، لن يتجاوز عامين على اقصى تقدير، عندها يكون لدينا مطار مشرف وحديث يليق بالسودان ويتم من خلاله تقديم خدمات لائقة وعلى مستوى عالٍ من الجودة للمسافرين من السودانيين والأجانب ويعكس وجه طيب للبلد، هذا فضلا عن إمكانية ان يعتبر المشروع بمثابة (Pilot Project) يقود نجاحه الى التشجيع على الانخراط في مشاريع اخرى متعددة تطرحها الحكومة بالرجوع والاستفادة من التجربة المطبقة، وبذلك نكون قد انجزنا جزء مقدرا من احلامنا عن طريق الداخل بدون الاستعانه بالخارج بصوره اساسيه، حتي ولو كانت تلك المشروعات اقل من الاحلام الكبيرة المنشودة والتي نامل في تنفيذها مستقبلا عندما تكون كل الظروف مواتية باذن الله.
الله الموفق وهو المستعان.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.