من القناعة السائدة إدخال الصناعات التحويلية في المنتجات الزراعية والرعوية ليتم تصديرها مصنعة أو علي قدر متقدم من التصنيع بما يحقق قيمة مضافة للعائد الاقتصادي المتوقع من هذه المنتجات. وبما ان هذه الصناعات في معظمها كثيفة العمالة فهي تساهم في أيجاد الكثير من فرص العمل مما يحقق فوائد اجتماعية في الأمن والسلام والاستقرار لكثير من المجتمعات.
ولتكون هذه الصناعات التحويلية مجدية اقتصاديا يجب أن تكون التكلفة أقل بقدر مناسب من القيمة المضافة حتى يتحقق العائد الاقتصادي المرجو، لكن غياب هذا العامل أدى الى تعثر الكثير من محاولات التصنيع لأن تكلفة التصنيع تجاوزت القيمة المضافة منه ويظهر هذا بوضوح في حالة المنتجات المعرضة لمنافسة خارجية.
تعتبر مصادر الطاقة من مواد بترولية و كهربائية بغرض الإنتاج أو النقل هي أكبر مدخلات الإنتاج تكلفة، وعليه يكون العمل على تخفيضها اضافة مباشرة لدعم فرص قيام هذه الصناعات وتحسين قوتها التنافسية. وعليه فالتركيز لا يكون بالحديث عن توفير الطاقة، وإنما بالضرورة عن توفير الطاقة الاقتصادية أو تلك الاقل تكلفة.
الكهرباء هي أفضل ناقل للطاقة من مصادرها الاولية مائية أو حرارية تستخدم البترول أو الغاز أو الفحم الحجري. فمن أهم مميزات الكهرباء أن المعدات المطلوبة للمستهلك والمستفيد النهائي من الطاقة هي الأقل تكلفة، والأقل حاجة للصيانة والأقدر على العمل في كل الظروف: فهي تتمثل في الموتور الكهربائي مقارنة بماكينات الديزل، كما انها تقلل من تكلفة رأس المال في تلك الصناعات التحويلية المرجوة. كل هذا يجعل الصرف في رفع القدرة المتاحة من الطاقة الكهربائية هو دعم مباشر لهذه الصناعات في تكلفتها الانشائية والتشغيلية مما يسهم في تحقيق الهدف الاستراتيجي.
الكهرباء بين العرض والطلب
يعاني السودان من حالة مزمنة من العجز في التوليد الكهربائي. وتحدد الاحصائيات الرسمية المتاحة على تباينها هذا العجز بحوالي 30 % في ذروة الاستهلاك الصيفي بمعنى أن الشبكة قادرة علي تلبية 70% فقط من الطلب. لكن هذه الارقام مضللة جدا في التعبيرعن حقيقة الوضع لأنها لا تمثل الطلب الحقيقي لكل السودان، وأنما تنحصر فقط فيما يسمى بالشبكة القومية التي تمتد من بورتسودان، كسلا والقضارف شرقا الي الابيض غربا ومن الحدود مع مصر شمالا إلى الحدود مع جنوب السودان جنوبا، كما ان الامداد لا يشمل جميع الرقعة الجغرافية التي تتمدد فيها هذه الشبكة.
أما المناطق التي تقع خارج الشبكة القومية في المدن المختلفة. فهي تعتمد على التوليد الحراري من وحدات الديزل الصغيرة وهي وحدات عالية التكلفة التشغيلية بالاضافة لتكلفة نقل الوقود ومعدلات الصيانة العالية المرتبطة بماكينات الديزل. وهذا ما يبرر تمديد الشبكة القومية لتشمل جميع السودان لأسباب اقتصادية بتقليل تكلفة الكهرباء وتوفيرها على مدى أوسع مما يحقق فرص واسعة للتنمية.
ولهذا فعند الحديث عن الطلب والامداد الكهربائي فنحن دائما نعني الشبكة القومية وهي بالضرورة جزء من السودان وفي داخل هذا الجزء مناطق دون غيرها، في الغالب المدن الكبيرة أو تلك التي تقع في مسار الإمداد الكهربائي، لأنه لا توجد دراسة يعتد بها تحسب الطلب الحقيقي على الكهرباء في السودان بصورة شاملة. الطلب دائما محدد بالاستهلاك حسب محدودية الإمداد الكهربائي المقيد بالسعات القصوى للوحدات المربوطة بالشبكة القومية. وعليه فإن الهيئة لا تقبل الطلبات للإمداد الكهربائي لتجاوز سعتها القصوى. فمثلا هناك دراسة لمنطقة الباقير الصناعية فقط توضح ان لها طلبات امداد غير مستجابة تتجاوز 1500 ميجاوات، هذا غير كثير من المشاريع الزراعية في النيل والشمالية، و ما هو مطلوب للمناطق داخل الشبكة ولا يصلها الإمداد. كما أنه من المعلوم أن الدراسات تؤكد وجود امكانيات كبيرة من الثروة المعدنية التي تحتاج للطاقة لاستثمارها. كل هذا يجعل الوضع الحالي من نواحي سعة الشبكة القومية من نقل وتوزيع لتقابل مثل هذه الاحتياجات بعيد كل البعد عن المطلوب من إمكانيات التوليد الكهربائي.
مما تقدم نجد أن تقدير الطلب الحالي والمستقبلي للكهرباء يفتقر الى البيانات او الدراسات الواقعية للطلب أو التوقعات المستقبلية. لكن يمكن الاستعانة بوسيلة بديلة لتقدير الطلب علي الكهرباء وذلك بالمقارنة بدول الجوار من حيث استهلاك الفرد للطاقة. واذا أخذنا مصر نموذجا فان التقديرات تشير إلى أن الطلب الحالي للكهرباء في السودان يتوقع ان يتجاوز ال 12 الف ميجاوات وهي حوالي أربعة اضعاف الاستهلاك في الشبكة القومية الحالية الذي هو في حدود 3 ألف ميجاوات.
مجموع القدرة الانتاجية الانشائية للوحدات في الشبكة القومية حسابيا سوف تبلغ 4 آلاف ميجاوات بنهاية العام 2020 . باعتبار اكتمال الصيانة للمحطات واكتمال التوسعة المتقدمة في مراحل الإنشاء والاختبار في بورتسودان وقرى، الا ان السعة الكلية المتاحة يتوقع ان تكون دون ذلك بكثير بعوامل موسمية التوليد المايي و عدم استقرار التوليد الحراري، ممايجعل تغطية جميع الطلب، حتي في حدود الشبكة القومية، بعيد المنال.
هناك عاملين مهمين للتخطيط للإمداد الكهربائي المستقر والآمن. هما توفير الطاقة واستقرار الطاقة (availability and reliability):
1- توفر الطاقة (Availability): وتتمثل في جمع إمكانيات التوليد المتاحة بما يوفر فائضا يسمح بإخراج وحدات للصيانة الدورية أو الاضطرارية، إذا أخذنا في الإعتبار عدم استقرار الوحدات المائية والحرارية في السودان يعتبر تخصيص نسبة 25% من مجموع سعة جميع وحدات التوليد هي نسبة مناسبة لأمن و استقرار الشبكة. وعليه فإذا كانت الحمولة القصوي 12 الف ميجاوات فإن السعة الكلية للتوليد يجب أن تكون 16 ألف ميجاوات.
2- استقرار الطاقة (Reliability) وهي نسبة الخروج الاضطراري للوحدات وهذا يتطلب أن تكون الوحدات في الشبكة العاملة على سعة أكبر من الاستهلاك بما يعادل اكبر الوحدات او أي تهديد محتمل للشبكة.
زيادة سعة التوليد يتوقف على التمدد في الشبكة وقيام الصناعات الذي يترتب عليه التصاعد في الطلب. وعليه فإن التوسع في التوليد لا يمكن أن يحدث إلا على مراحل. ولكننا نحتاج لقفزة مبدئية للخروج من حالة العجز المزمنة، ولتكن البداية باضافة 8 ألف ميجاوات للشبكة القومية مع توسيع الشبكة لتشمل كل المناطق الأخرى غير المغطاة كخطوة اولية.
الاستدامة المالية
من أكبر المعوقات في تطوير الإمداد الكهربائي ومقابلة تكلفة التشغيل هي معدل التحصيل المتدني لقيمة الخدمة من المستهلكين، مع أضافة حقيقة ان الاستهلاك المنزلي والحكومي والمؤسسات غير الانتاجية يمثل نسبة قد تصل ما بين 80% إلى 90% من الاستهلاك الكلي للكهرباء. في كثير من الأحيان يكون التحصيل متعثرا ودائما دون القيمة المجزية بسبب وجود دعم للكهرباء في حدود 200 كيلووات ساعة لكل مستهلك. كل هذا يجعل العائد من التحصيل لقيمة الخدمة في حدود الإمداد الحالي من 3 إلى 4 ألف ميجاوات ضعيفة جدا وغير مجدية، ويضاعف في ذلك حجم الهيئة من عمالة ومنشآت تمثل تكلفة عالية للطاقة.
على أن هذا الوضع قابل للتغيير لو حدث التطوير بزيادة معتبرة للتوليد إلى 8 ألف ميجاوات كخطوة أولي، مما يؤدي الى أدخال مستهلكين جدد في مجالات انتاجية، صناعية أو تعدين قادرين علي دفع القيمة السوقية للكهرباء، كما ان ال overhead لا ينبغي أن يزيد بهذا المعدل مما يجعل تكلفة الميجاوات أدني وعائده التسويقي أعلى. ويؤمل أن يؤدي تحويل شركة انتاج الكهرباء لتكون شركة بمقدرات قابلة للاعتماد الكلي على نفسها والحصول على القروض للتوسعة للمشاريع المستقبلية بتخطيط علي مدي عشرات السنين كما ينبغي أن يحدث.
التوسع وتكلفة الإنتاج
يعتبر الإنتاج المائي الكهربائي هو الأقل تكلفة وهو يشكل الآن الجزء الأكبر مساهمة في الشبكة القومية، ولكن بعد استنفاذ معظم المصادر المائية المتاحة ولم يتبق غير اليسير من تحسين الإنتاج في بعض الخزانات بسبب سد النهضة، وبالتالي يتوقع أن يكون التوسع في الانتاج المحلي من مصادر التوليد الحراري العالي التكلفة. وبعد عام او اثنين سوف يتجاوز التوليد الحراري التوليد المائي وبالتالي ستتصاعد تكلفة توليد الكهرباء مع تزايد الاعتماد على الوقود البترولي المكلف اقتصاديا والمنهك لموارد الدولة من العملات الصعبة، علما أن التوليد من مشتقات البترول يزيد معدلات تكلفة الصيانة و تزداد معه معدلات خروج الوحدات بالأعطال الطارئة، ولهذا لا توجد دولة في العالم تعتمد على البترول كعنصر أساسي في توليد الكهرباء.
مما تقدم يكون لزاما أن تسعى الدولة لبدائل اقتصادية لتوليد الكهرباء ليشكل ما يسمى (base load ) أو التوليد المركزي، وهي وحدات كبيرة تعمل بانتظام علي مدار الساعة لفترات طويلة متصلة وبقدر عالي من الاستمرارية والاستقرار وذلك من خلال خيارين:
الاول والانسب هو أن يتم تطوير في استكشاف وأنتاج الغاز الطبيعي بغرض توليد الكهرباء بالغاز المنتج محليا الذي سيكون أكثر جدوى اقتصاديا، كما انه سيوفر وقودا لتطوير التعدين ايضا. الاكتشافات الموجودة تتحدث عن غاز في منطقتي البحر الأحمر وسنار، ولكن هناك شكوك في امكانية استخراج الغاز أو أن يحدث ذلك في المدى القريب.
الخيار الثاني المتاح هو ان يتم انشاء محطة كهرباء بوقود الفحم الحجري من البحر الاحمر. وقد أعدت دراسة متكاملة عن محطة لإنتاج 600 ميجاوات بوقود الفحم الحجري، والمطلوب فقط تحديث هذه الدراسة لبحث إمكانية زيادة الإنتاج إلي 2 ألف ميجاوات قابلة للتوسعة المستقبلية.
ولتحقيق النقلة المرجوة في التنمية بتحقيق الصناعات التحويلية المجدية اقتصاديا، التي يتحدث عنها رئيس الوزراء في أطار فكرة أحزمة التنمية الخمسة، هناك ضرورة لآنجاز قفزة في الإنتاج الكهربائي، وذلك بان يتم اضافة 8 ألف ميجاوات تساهم فيها الطاقات المتجددة من رياح وشمسية والاستيراد من إثيوبيا ومصر مع اضافة 2 ألف ميجاوات فحم و2 ألف ميجاوات غاز في بورتسودان بمحطات مركبة غاز بخار (combined cycle) وهي الأعلى كفاءة ويستورد لها الغاز إذا تعثر إنتاجه محليا، ومن ثم توفير الطاقة اللازمة لآنطلاق التنمية.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.