حين استفاقت الخرطوم وتحررت من جدران المتاريس التي نصبها الثوار ، أعقاب مجزرة فض الإعتصام أمام القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة ، قبلها كانت أرض النيلين مثل بيوت الأشباح يتطاير الناس منها مثل فراش مبثوث يطاردهم شبح الهلع والموت داخل الأحياء.. ولم تكن القيادة العامة ذات الأسوار العالية والمنيعة قادرة على صد الرصاص ضد الثوار الذين لجأوا للاحتماء بها، وأخيراً حين انسدل الستار وأغلقت صفحة غنية بالأحداث المهمة والفارقة في تأريخ السودان ، ظل الذي بين الثالث من يوينو والسابع عشر من أغسطس، مزجاً من روايات وأحلام عريضة تتعطش لتحقيق الحرية والسلام والعدالة، أحلام منها ما أنجز ومنها ما اصطدم بالمتاريس الغليظة ، وكان لأصدقاء السودان الأفارقة دوراً مفصلياً في إنهاء الخصومة بين قوى الثورة السودانية والمجلس العسكري الذي يتهمه الثوار بتخطيط وتنفيذ مجزرة فض الإعتصام ..
وفي السابع عشر من أغسطس 2019م، استيقظ السودانيون فجراً على قرع الطبول (يانائم قوم أصحى قلبوها مدنية) والوسيط الإفريقي محمد الحسن ولد لبات يعلن للملأ أن السودان أصبح دولة مدنية وتم توقيع شهادة ميلاده بعد مخاض عسير في تذويب المسافات بين العسكريين والمدنيين ، ابتسمت شوارع الخرطوم وعبأت حناجرها بالهتاف وفي وجهها دمعة حزن على الرفاق الذين استشهدوا في معركة تحرير الوطن من الديكتاتورية ..
عام مضى على توقيع الوثيقة الدستورية ولا يزال ملف السلام الذي جعلته الحكومة الإنتقالية أولى إهتماماتها مرهوناً بمزاجات قادة الكفاح المسلح دون أدنى نظرة موضوعية ووطنية تحمل ولو قليل من التنازل عن الطموحات لأجل الوطن بالرغم من إحراز تقدم معقول في هذا الملف..
عام مضى ولايزال السوق بتضخمه المتصاعد إلى أسفل يسحق في المواطن ويجلد فيه بسياط الفقر وانعدام الحيلة والتسكع بين صفوف الأزمات ، دون تحركات تذكر من وزراء أتت بهم الشوارع وهي ذات الشوارع القادرة على إيقاف هذا الفشل والعبث بمتطلبات الثورة..
عام مضى ولا تزال القوى الظلامية تعبث بأمن الوطن والمواطن وتثير النعرات القبلية في مناطق الهشاشة بالسودان حيث الأرض الخصبة للتعاطي مع القبيلة بدرجة مخيفة تصل حد القتل والحرق كما حدث بغرب السودان وشرقه ، ومن الملاحظ أن تفجّر هذه الأزمة تزامن مع تعيين الولاة المدنيين واستلامهم مهاهم بالولايات مما يؤكد صحة التصريحات الصادرة عن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، التي أعلن فيها أن مسؤولين سابقين في عهد رأس النظام المخلوع عمر البشير وأخرون يعملون على تقويض الديمقراطية الوليدة في السودان ويعرقلون عمل الوزراء المدنيين ، ويسعون لوقف تنفيذ أحكام الإعلان الدستوري ، وتأخير الاستعدادات لصياغة دستور جديد والتحضير لانتخابات عام 2022 ، والانخراط في الفساد أو التعدي على حقوق الإنسان ، مما قد يؤدي إلى إضعاف سلطة الحكومة الانتقالية بقيادة مدنية…
عام مضى ولاتزال اللجان المشكلة للتحقيق في الإنتهاكات التي حدثت في عهد الثورة، عاجزة عن صياغة تقرير يشفي صدور الأمهات الباحثات عن العدالة الغائبة ، وعلى رأسها لجنة التحقيق في فض الإعتصام ولجنة مجزرة طلاب ثانويات مدينة الأبيض وغيرها من اللجان المشكلة ..
عدد من الملفات التي أخفقت فيها حكومة الثورة بقيادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك جاء بسبب تهاونها مع الثورة المضادة التي تقود معارك خفية وعنيفة من أجل تقويض الديمقراطية في السودان والتي يجاهرون بها أحياناً بمغازلتهم للعسكر مستغلين بذلك ضيق المواطن من الأحوال الإقتصادية ، بجانب تقاصر بعض الوزراء عن هامة الثورة العظيمة وكل ذلك صاحبه الإنقسامات التي حدثت بقوى إعلان الحرية والتغيير وتجمع المهنيين ، بالرغم من أن ذات الحكومة سجلت نقاط تحسب لها مثل إنجازات لجنة إزالة التمكين وإسترداد الأموال المنهوبة بجانب الملفات المنجزة في العلاقات الخارجية وملف الحريات وحقوق الإنسان.
اليوم تكتمل دورة الحكومة الانتقالية الأولى، بعد عامٍ ملئٍ بالأحداث والتناقضات والصراعات والشد والجذب، بينما ترتفع عقيرة شباب الثورة ممثلة في لجان مقاومة الأحياء، ترفض أن تتدلى هاماتها وترفض الانحناء لعاصفة المتغيرات، وها هم يخرجون للشوارع مرة أخرى شاهرين الهتاف لأجل (جرد الحساب)، وبين أياديهم (جراب) من الأمل ادخروه لتحصيل حصاد عامٍ من البسالات والبطولات النادرة.
رحاب فضل السيد
كاتبة صحفية
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.