د. مزمل أبو القاسم يكتب: المكتولة ما بتسمع الصايحة!
للعطر افتضاح
د. مزمل أبو القاسم
المكتولة ما بتسمع الصايحة!
* ما أسهل بذل الوعود في سوق المزايدات السياسية، وما أشق الوفاء بها، فالعهد الذي يربط المواطنين مع القوى السياسية الحاكمة هو ميثاق الحرية والتغيير، الموقع في الأول من يناير 2019، والذي نص في بنده الثاني على ما يلي: (تشكيل حكومة انتقالية من كفاءات وطنية تضطلع بما يلي:
* 1/ وقف الحرب بمخاطبة جذور المشكلة السودانية ومعالجة آثارها.. إلى آخره.
* 2/ وقف التدهور الاقتصادي وتحسين حياة الناس في كل المجالات المعيشية).
* لن نتطرق إلى البند الأول، مع أن نذر الحرب التي يريدون وقفها انتقلت من أقاصي الغرب إلى عمق الشرق، ومن خور الورل وحتى خور أربعات، لتنذر باندلاع حربٍ أهلية طاحنة، تقضي على الأخضر واليابس، نتاجاً لفشلٍ سياسيٍ واقتصاديٍ شهد به الصديق قبل العدو.
* ابتدرت حكومة حمدوك عهدها بتقديم مشروع موازنة انفرد بإعداده د. إبراهيم البدوي وزير المالية السابق، واستند في مجمله إلى روشتة صندوق النقد الدولي، القائمة على رفع الدعم عن السلع الاستراتيجية والخدمات الرئيسيّة، وحوى المشروع أرقاماً تجافي الواقع، وتحلق في عالم الأحلام، التي سرعان ما تبخرت لتطيح بصاحبها قبل أن يكمل عامه الأول في المنصب.
* استهدفت تلك الموازنة الخيالية تحقيق سعر صرف للدولار في حدود ستين جنيهاً، وقبل انقضاء الثلث الأول بلغ الثمن (150) جنيهاً في السوق الموازية، نتاجاً لصفقة الفاخر الكارثية الفاسدة.
* تحدثت الموازنة المنهارة عن معدل تضخم في حدود (30%)، فبلغ المعدل (136%) بنهاية نصف العام، لينذر بانهيارٍ اقتصاديٍ شامل، عطفاً على المعدل الانفجاري للتضخم في البلاد.
* استندت الموازنة إلى دعم أجنبي يساوي (50%) من مواردها المرتقبة (156 مليار جنيه)، وبلغ المتحصل منه فعلياً (1%) قبل رحيل البدوي من المالية غير مأسوفٍ عليه.
* حدد مشروع الموازنة دعماً بقيمة ملياري دولار من منظومة الصناعات الدفاعية، وأثمرت الاجتماعات التي عقدتها المالية مع الداعم المنتظر عن وعدٍ بتقديم مبلغ خمسة مليارات جنيه فقط بالجديد، تساوي أقل من (35) مليون دولار، وتمثل الفارق المفجع بين الواقع المزري والأحلام المستحيلة.
* تم تحديد مبلغ (61) مليار جنيه كسقف للاستدانة من النظام المصرفي بطباعة النقود، فتخطي السقف مائة وثمانية مليارات قبل نهاية النصف الأول من العام، نتاجاً لقرار أحمق ومتهور، اتخذته المالية وقضى بزيادة مرتبات موظفي الدولة بنسبة (569%)، في عز زمن الكورونا، الذي شهدت فيه الإيرادات الحكومية انهياراً تاماً نتيجةً لسياسة الإغلاق.
* حوى المشروع عجزاً بقيمة (70) مليار جنيه، ارتفع إلى (370) ملياراً قبل أن يجف حبر الموازنة الحالمة، نتاجاً لقرار زيادة الأجور بلا دراسة.
* توقعنا من الحكومة أن تعي الدرس، وتعيد تقييم الأمر لتخضع الموازنة المعدلة إلى تشاورٍ أوسع، ودراسةٍ أعمق، وأن تنظر إلى مقترحات لجنة الخبراء الاقتصاديين لقوى الحرية والتغيير، وتدرس خياراتها البديلة، لزيادة الإيرادات وتقليص حجم العجز، ومحاصرة الآثار السالبة للتراجع المريع في الأداء الاقتصادي لمؤسسات الدولة، فاختارت أن تمضي في الطريق نفسه، وتنفرد بإعداد الموازنة المعدلة (لما تلقى من شهور العام وقدرها أربعة)، لتلقي بكامل تبعاتها على عاتق المواطن المطحون بالغلاء والتضخم وعدم إحساس حكومته بمعاناته المتصاعدة.
* مضت الحكومة قُدماً في تنفيذ وصفة صندوق النقد الدولي كاملةً، لترفع الدعم عن الكهرباء والوقود، وتزيد السعر الرسمي للدولار بنسبة تفوق (100%)، لتضاعفه من (55) جنيهاً إلى (120)، ورفعت قيمة الاستدانة من النظام المصرفي من (61) مليار جنيه إلى أكثر من مائتي مليار، ومع ذلك حددت المعدل المستهدف للتضخم بخمسة وستين في المائة، مع أن معدله للشهر المنصرم بلغ (136%)، ومع أن الإفراط في طباعة النقود يعني زيادة المعدل لا تخفيضه.
* الأرقام الواردة في مشروع الموازنة المعدلة تحمل انتحاراً سياسياً واقتصادياً لا ريب فيه لحكومة الثورة، التي لم تراع الآثار الكارثية التي ستترتب على المشروع، ولم تتحسب لكلفته السياسية الباهظة، ولا تبعاته المؤلمة على المواطنين الذين يجأرون بالشكوى، ويئنون تحت وطأة الغلاء الفاحش، والتضخم المتصاعد، والفقر المدقع.
* قدمت الحكومة أسوأ عيدية لمواطنيها، وأقبح مكافأة لشعبها بهذا المشروع الموغل في القسوة، المجافي لأحلام وآمال من ثاروا على الطغيان سعياً لتحسين واقعهم، وتسهيل معاشهم، وتوفير الخبز والحليب لأطفالهم.
* من فرضوا على فقراء بلادنا (وهم الغالبية العظمى) أن يتحملوا نتائج سوء الأداء وضعف الكفاءة وغياب الرؤية وتفشي الفساد الحكومي في العهد الجديد سيدفعون ثمن هذه الموازنة الكارثية قريباً، لأنها لم تراع معاناة الشعب، ولم تتحسس آلامه، ولم تنظر إلى فقره المدقع.
* هذا المشروع الموجع سيدون شهادة وفاة لحكومةٍ فاشلة، طلت تتشدق برغبتها مكافحة الفساد وتقليص حجم الإنفاق الحكومي، وأثبتت الأيام أنها شرعت في شراء سيارات فخمة لمجلسها السيادي بقيمة تقارب التريليون جنيه بالقديم، في عز زمن المعاناة والغلاء الفاحش، ولو لم تكسف (اليوم التالي) النقاب عن تلك الفضيحة المجلجلة لتم شراء الفواره بلا عطاءات، علماً أن سياسة الشراء المباشر بفساد مشهر ظلت تمثل القاعدة في حكومةٍ تتشدق برغبتها في محاربة الفساد ليل صباح.
* أجازوا الموازنة المعدلة في وقتٍ وجيز، وانطلقت عليهم مقولة (المكتولة ما بتسمع الصايحة)، وعليهم أن يترقبوا رد الفعل، ويستعدوا لدفع فاتورتها الباهظة السياسية بعد أن بلغت أرواح المسحوقين الحلقوم.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.