عثمان جلال يكتب: بين الثورة الواعية، والثورة الضريرة
بين الثورة الواعية، والثورة الضريرة
عثمان جلال
(وقماشة الايام من خيطان غزلك وهي صافية عليك)
(الفيتوري)
(1)
بدأ لي بعد انسحاب تجمع المهنيين السودانيين من هياكل قوى الحرية والتغيير اعادة هذا المقال الذي كتبته يوم 13/ 4/ 2019م بعد حوار غلبت عليه روح الشعبوية لأحد قيادات قوى الحرية والتغيير أمام الجماهير السودانية المحتشدة في محيط القيادة العامة بعد لقاءه ببعض أركان المجلس العسكري حيث عرض رؤيته لملامح ومحددات إدارة الفترة الانتقالية القادمة وجوهرها اختزال مهام الثورة السودانية وإدارة المرحلة الانتقالية في قوى سياسية أحادية هي تحالف قوى الحرية والتغيير، واستدركت وقتها أن هذا الاختزال يعني. (استبدال استبداد باستبداد) يتزيأ بشعارات المدنية الكذوبة، وان هذا التفكير الرغبوي سيؤدي إلى انقسام عميق داخل الشارع السياسي السوداني العريض المحتشد أمام القيادة العامة بكل تنوعه الفكري والسياسي والاجتماعي، وكذلك سيؤدي حتما إلى بروز تناقضات داخل قوى الحرية والتغيير، تقود إلى صراعات وشروخات وانقسامات في بنيتها التحالفية الهشة اصلا، وستكون النهايات فقدان الثورة السودانية للعمق الجماهيري والاجتماعي الصلب والموحد. وفي ظل السيولة الأمنية، والهشاشة الاجتماعية، والأزمة الاقتصادية الخانقة، وعدم تجانس وتناغم المؤسسة العسكرية، وتكاثر الفصائل العسكرية المسلحة في الهامش السوداني، فان حالة توازن الضعف الشاملة، لن تسعف هذه المرة المؤسسة العسكرية السودانية للتدخل والانقلاب تحت زرائع الثورة والإنقاذ وحسم الفوضى واستعادة الأمن الاجتماعي لأنها ليست سواء وعلى اتساق وتجانس.
(2)
لذلك فإن السيناريو سيكون حرب الكل ضد الكل وتفكك وانهيار كيان الدولة السودانية وهو كيان هش ورخو، ولد من رحم المعاناة والانتهازية كما ذكر اللورد كرومر، وتراكمت ازماته نتيجة خيبات الطبقة السياسية السودانية منذ فجر الاستقلال، ونخشى تفكيك قطع دومنيو هذا الكيان وهو لا يزال في مخاضات صراع الرؤى والتكوين.
(3)
لذلك فإن المروءة الوطنية تحتم خلال المرحلة الانتقالية القادمة النأي عن عقلية الاستقطاب، وتقسيم المجتمع فسطاطين (هم ضد الثورة) و(نحن صناع الثورة) وبعث فكر وخطاب وسلوك سياسي يحفز كل قطاعات المجتمع السوداني للمشاركة في استمرار وهج الثورة، وصناعة المشروع الوطني الديمقراطي المستدام، والنأي عن إقحام الأيديولوجيا الحزبية، والابتعاد عن إثارة القضايا الهوياتية والدينية، وإدارة الفترة الانتقالية بكفاءات وطنية مستقلة، تجنبا للمحاصصات التي ستختزل مشروع الثورة في مغانم، وانصراف الأحزاب السياسية لحشد قاعدتها الاجتماعية وبناء ذاتها تنظيميا، والدفع بأفكار وبرامج لاجتذاب القوى الجديدة، وقطاعات الشباب الصاعدة. لأن من ثمرات الثورات الواعية تشكل فكر جديدة، وقيادة جديدة، وسلوك سياسي جديد يصب في دفع وتعميق مسارات التطور الديمقراطي.
والشهامة الثورية والسمو الوطني يقتضي أن تنبذ الحركات المسلحة العنف (أرضا سلاح)، والتحول لأحزاب سياسية أو الانخراط في الأحزاب الوطنية ذات البعد القومي لتقوية الكتلة الوطنية الديمقراطية. ان انحياز القوى الصلبة للنظام السابق للثورة السودانية يقتضي التعامل بذكاء وحكمة ثورية مع الحزب الحاكم السابق تدفعه للتعاطي البناء والداعم لقيم وشعارات الثورة السودانية حتى لا يتحول إلى طاقات سالبة مضادة للثورة.
(4)
وضرورة تشكيل كتلة وطنية تاريخية حرجة تضم كل القوى السياسية الوطنية من (أقصى اليمين لأقصى اليسار) هدفها الاستراتيجي غرس المشروع الوطني الديمقراطي كثقافة في المجتمع، ومأسسته في بنية الدولة، وترسيخ القيم الديمقراطية في هياكل الأحزاب السياسية. ان ادارة الانتقال والتحولات الكبرى من ثقافة الأنظمة الاستبدادية المتراكمة إلى تبيئة وتوطين الثقافة الديمقراطية تتطلب القادة العظام الذين يتجاوزون الذات والأشخاص لصالح قضايا البناء الوطني، بل وغرس قيم ثقافة المشروع الوطني الديمقراطي في قاعدتهم الاجتماعية، وكليات المجتمع.
(5)
إن غرس المشروع الوطني الديمقراطي يتطلب روح الوحدة، والتوافق والشراكات الطويلة المدى المتجاوزة للايديولوجيات، ومشاريع الأحزاب الذاتية، ريثما يترسخ النموذج الديمقراطي الأمثل، بصورة تسمح بالاختلاف والتمايز بين القوى السياسية، خلاف تنوع وثراء يصب في نهر النظام الديمقراطي.
لكن هل حيثيات خروج وانسحاب تجمع المهنيين السودانيين من قوى الحرية والتغيير هدفها فعلا العودة للمنصة التأسيسية لإنقاذ الثورة ومهام المرحلة الانتقالية، ام إعادة ترميم قوى الحرية والتغيير للوصول إلى ذات الطريق المسدود، واستمرار الأزمة الثورية المستحكمة؟!
نواصل في القادم بإذن الله
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.