قلبي دليلي “2”
“الناسُ نيام، فإذا ماتُوا انتبَهوا”
إيمان كمال الدين
يأتي الموت فيُحلينا في لحظةٍ من الحياة إلى “لا شيء”، لا ننتبهُ فقط بل نغدو كائنًا آخر خارجٌ من رحم الحياة لتوه، ولكن بكامل وعيه مُدركًا لحقيقة الحياة وإن استحال إدراكها.
يأتي ليُخرجنا من زخم الحياة، نترجل من قطارها نتحسس ما حولنا كالأعمى، أعمى البصر والبصيرة، مُجردين من كل شيء سوى إدراكنا بمعنى الألم، والحزن والتعبير عنهُ بقطراتٍ من الدمع لا تشفي غليلًا ولا تُسكن لوعة، نبكي بلا انقطاع وبلا أمل نتحسس ما فقدنا ومن فقدنا، لندرك أن لا عزاء ولا مفر ننتظر ونحن نسير في دروب الحياة ذلك اليوم الذي تضمنا فيه الأرض لنغدو تحتها بعد أن عشنا عمرًا نسير فوقها بلا توقف.
نحاول أن نستد بأحزاننا على جدرانٍ كنا نحسبها مُتكئًا، وعلى قلوبٍ كنا نأمل أن تكون بيوتًا لنا، فجاء الموت لندرك أننا كنا ننسج من عُمرنا بيتًا أوهن من بيوت العنكبوت.
عبثًا نحاول أن نتقاسم الحزن، يتكيء حزينٌ على آخر، والفقد ذات الفقد، تختلط الدموع والدماء وإن كانت لا تُرى لكنها تجري بداخلنا، يدٌ مكسورة تربتُ على ظهرٍ محني، وعوضًا عن تبدد الحزن يتكاثر، ويفرُ منا من نحب كفرار الأصحاء من المجذوم.
وفي غمرة الموت، موت من نحب، نتجاهل المصير المحتوم والأجل الذي إنقضى ونتساءل لعل الروح ما زالت في الجسد، لعل الطبيب أخطأ حين أراد سماع النبض وأصابهُ الصمم، لكن أحدًا لا يجيب، حتى هو ، ذلك الراحل لا يُجيب، ولا شيء سوى الصمت.
يواسي كل حيٍ الآخر بـ(إنا لله وإنا إليه راجعون)، لكن ما بعد الموت تسقط أَغْشية الحياة، فنبصر بالعين والقلب، نُدرك أن الصحبة في الحياة غير الصحبةِ في الموت، وأن كل من تقاسم معنا الفرح ليس من سيتقاسم معنا الحُزن، وأننا كنا جدارًا، وبيتًا، ومتكئًا لمن عبثت بهم الحياة لكنهم ظلوا عاجزين حين مسنا الضُّرُّ، وحين طرق الموت باب الدار، وإنهارت إحدى جدرانهِ فأنكشف الغطاء وبانت خيوط العنكبوت، وأستحال سراب الواحة إلى حقيقة، صحراء مُمتدة.
مُجددًا لا شيء سوى الصمت، صمت القبور، وكما أن الموت يضع الخاتمة لتصعدُ الروح إلى بارئها، ويبقى الجسد تحت الأرض، نعود إلى قطار الحياة نستقلهُ من جديد بقلبٍ واهن، وروحٍ معلقة، وجسدٍ خامل، لكن شيئًا من عبء الحياة قد سقط، بعضهُ على مضض، فاليدُ التي تمتدُ في الرخاء وتغيب في الشدة، لن تكفف دمعًا ولن تسند جسدًا متهالكًا، ولن تأوي قلبًا شردتهُ الحياة.
ليت كل ما في الحياةِ كالموت، حقيقةً لا مجاز فيها.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.