ضياء الدين بلال: (نموت شبعانين)!
العين الثالثة
ضياء الدين بلال
(نموت شبعانين)!
-١-
قبل ساعات من فرض الحظر اﻷول للتجوال، كنا مجموعة من اﻷصدقاء ضيوفاً بمنزل صديق عزيز.
قلت لهم: لا أتوقع نجاحاً كبيراً لهذا القرار، الإستجابة ستكون محدودة ومؤقتة، رغم خطورة الجائحة الفيروسية.
قلت ﻷصدقائي ممازحا: غداً سيخرج السودانيون إلى الشوارع للوقوف: على مدى نجاح قرار منع التجوال، الفضول الشعبي سيغتال القرار في مهده!
حكى أحد الجالسين في تلك الدعوة، قصة طريفة توضح ما يفعله الفضول (الشماري) بالسودانيين بإيرادهم موارد التهلكة.
قال: كنا بمدينة الدمام السعودية في مستهل التسعينيات إبان حرب الخليج اﻷولى.
مع إطلاق صافرات اﻹنذار يلوذ الجميع بالملاجئ المحصنة، ما عدا السودانيين!
المثير للدهشة- حسب إفادة الراوي- أن بعض السودانيين يقودهم الفضول للصعود إلى أسطح المباني لمعرفة، أين ستقع الصواريخ الصدامية المرسلة من العراق؟!
-٢-
صحيح هنالك أسباب اقتصادية عملية لا تساعد على إنجاح منع التجوال، غالب سكان العاصمة بنسبة تتجاوز الـ70% يعتمدون في رزقهم على الكدح اليومي وهو ما يوفر لهم الحد الأدنى من احتياجاتهم الحياتية.
كما في كل الدول التي تفرض على مواطنيها حظر التجوال، تقوم الحكومات بتقديم المعينات المتعددة والضرورية المخففة للضرر، للتشجيع على البقاء في المنازل.
حتى في بعض تلك الدول لم يطل صبر مواطنيها، إذ سرعان ما اندلعت احتجاجات رافضة تمديد حظر التجوال وإغلاق أماكن العمل.
-٣-
لم يكن أحد يتوقع أن تنجح الحكومة في تخفيف أعباء منع التجوال على أصحاب الدخل اليومي، فيدها قصيرة وعزمها ضعيف.
من يملكون المال ولهم القدرة الشرائية، لا يجدون ما يرغبون فيه بسهولة ويسر، دعك من محدودي الدخل المرابطين بمنازلهم بأمر السلطات!
قبل أيام وجدت صاحب بقالة يعمل ما بعد ساعات الحظر قلت له: ألا تخشى أن تتعرض للعقوبة؟!
أجابني بغيظ: (إذا طلعنا ممكن نموت بالكورونا، وإذا قعدنا في بيوتنا حتماً حنموت من الجوع، موت لي موت اﻷفضل نموت شبعانين)!
-٤-
نعم، هنالك أسباب اقتصادية عملية لا تسمح بنجاح قرارات منع التجوال، وإغلاق محال العمل لفترات زمنية، تتجاوز اﻷيام المعدودة.
يضاف إلى ذلك أسباب متعلقة بثقافة المجتمع السوداني تحول بينه والإلتزام بالتوجيهات الإحترازية الوقائية المانعة لانتشار فيروس الكورونا.
خط الدفاع اﻷساسي في الحد من انتشار الفيروس اللعين التطبيق الصارم لقواعد التباعد الإجتماعي.
للأسف المجتمع السوداني يعلي لدرجة كبيرة من قيم التواصل الإجتماعي الحميم ولو على حساب الصحة والمال.
يكفي في مجتمعنا للتقليل من قدر شخص وصفه بعدم الفاعلية الإجتماعية (ما بتلقى في عرس ولا بيت بكاء ولا بتجد اسمه في كشف)!.
-٥-
السودانيون بطبعهم عاطفيون، لا تستطيع أن تقنع أسرة في غالب السودان بأن تبتعد من أحد أفرادها، ﻷنه مريض بمرض معد خطير.
في السودان لا تستطيع منع المواطنين من تشييع متوفي بالكورونا من ذوي الطول الإجتماعي أو الديني.
أكاد أجزم ضحايا الكورونا من الموتى والمصابين، من هم في منازلهم تحت رعاية أسرهم أضعاف الذين في مراكز العزل!
حدث ما حذرنا منه من قبل: أصبح المرض وصمة إجتماعية تسعى اﻷسر لسترها ولو على حساب صحة أفرادها، وبات مريض الكورونا، كأنه مجرم تحاصره خارج منزله، مشاعر الخوف والكراهية، لا العطف!
كما أن اﻷداء البائس لوزارة الصحة في التعامل مع المرضى والمشتبهين، ترتب عليه تنفير المواطنين من مراكز العزل.
-٦-
المعضلة الإجتماعية اﻷساسية التي تمنح فيروس الكورونا حق الانتشار الواسع داخل السودان خاصة في الأرياف، الثقافة الغالبة في المجتمع تعتبر أن الخوف من الأمراض يصنف على سبيل الجبن وعدم الشجاعة!
أما المعضلة الثقافية المضعفة لقواعد السلامة والإحتراز من عدوى الفيروس في المجتمع السوداني العريض، فهي سيادة روح التصوف والزهد في الحياة.
غالب السودانيين هم كما وصفهم الكاتب الكبير الطيب صالح في (موسم الهجرة إلى الشمال):
(هم كشجيرات السيال في صحارى السودان، سميكة اللحى حادة الأشواك تقهر الموت ﻷنها لا تسرف في الحياة).
* صحيفة (السوداني)
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.