إيمان كمال الدين : (يتيم)
الواحدة صباحا غرفةٌ مضاءة أصوات خافتة جدًا تصدر منها يقبعُ وحيدًا فى ركن قصيٍ من غرفته جالسٌ قبالة منضدته العتيقة.
أما مصدر الأصوات فطرق أصابعه على المنضدة محاولاً إحداث نغمات موسيقية لكنها تخرج “تك تك تك” يتنهد ويكتفي بالطرق على المنضدة يعتدلُ في جلسته يشعرُ أنه بحاجة ماسة للإسترخاء.
يجلسُ على الأرض يُجمعُ كفيه وما أن يُغمض عينيه حتى يسمعُ أصواتاً تعلو في الخارج صوت والدته مع شقيقه الذي بدا مصرًا على مشاهدة التلفاز وأمه تصرُّ على أن الوقت متأخر، قال في نفسه:الوقتُ متأخر كم الساعةُ الآن؟
ومن جديد يعلو صوت أمه مع شقيقه الصغير متى ستنام الساعة الآن الواحدة صباحاً لديك واجبات غدًا أُخلد للنوم
وعم الهدوء المكان.
أما هو ففغر فاهه مندهشاً وقال: الواحدة ليلاً متى حلّ الليل يتوجهُ نحو النافذةِ يُزيح الستار لا يرى شيئاً ويقول: متى خيم الظلام هل كنتُ جالساً على المنضدة منذُ الظهيرة؟ لم أشعر بشيء لقد أغلقتُ النوافذ وأسدلتُ ستائر الغرفة أظلمت الغرفة فأضاءت المصباح ولم أشعر بمُضِيِّ الوقت.
يتحسس جسده كأنه قد أصيب بالحساسية ويضع يدهُ على جبينه ويتحسس نبض قلبه، يتوضأ ويصلي ما فاتهُ من الفرض يُطفئ الأنوار ويُشعلُ شمعةً يتراقص ضوءُها في عتمة الليل عادةً ما يفعلُ ذلك كلما شعر بالوحدة لكنه بات كل ليلة يُشعلها.
وضعها على المنضدة وجذب الكرسي وجلس قبالة الشمعة عقد ساعديه وبدأ يحدقُ فيها مال قليلا ووضع مرفقهُ على المنضدة وأسند رأسهُ إلى راحة يده وراح يذبُ بيده الأخرى الحشرات الصغيرة التي كانت تتدافع نحو النار مؤديةً بنفسها إلى التهلُكة وعندما عجز عن حمايتها همهم قائلًا: توقفي هذا ليس بالنور الذي ينبغي علينا أن نتدافع نحوه ليتني كنتُ عالم حشرات لأعرف سر اندفاعك نحو هذا الضوء القاتل ترى فيمَ تفكرين أيتها الحشرات الصغيرة؟
يعتدل في جلسته يُشبك أصابعه ويقول: في علم الإنسان هناك ظاهرةً مشابهة تدافعنا نحو مصدرِ من النور الحب نفعل كما تفعلين أيتها الحشرات ولا ندري وربما ندري أننا لا نلقي بأنفسنا إلا إلى التهلكة وكما ضللتِ مصدرك إلى النور ضللنا نحن طريقنا إلى النور الحُب كيف نُحب، حتى نحيا على الأقل.
شعر بالخوف فجاةً، وتوقف عن الحديث بينهُ وبين نفسه إذ رأى الظِلال كأنها تتحرك في أرجاء الغرفة وعندما نظر إلى الأصل وجده ثابتاً كانت الشعلةُ تتمايل وتنعكس على محتويات غرفتهُ فيراها على الجدار تتمايل كأنهُ ذلك النور الذي يسطعُ في دواخلنا فننتشي فرحاً وطرباً وترقص دواخلنا لكن أجسادنا ثابتة حينها لا تتحرك.
نهض فانعكس ضوءُ الشمعة عليه نظر إلى ظله على الجدار فرأى الظل راقصاً فانفجر ضاحكاً حتى استلقى على أرضية الغرفة دمعت عيناه فرحاً، هذا أنا، لم أقُم بحركاتٍ كهذهِ من قبل نهض مجدداً انعكس ظلهُ على الجدار رأى نفسهُ راقصاً مجدداً ثنى ركبتيه وجلس قُبالة الشمعة الموقدة حتى يتسنى له رؤية دواخله ولو على جدار، على الأقل هذا أفضل فهو ينظر كل يومٍ في المرآة ولا يرى شيئاً.
وكأنهُ أصيب بالصداع بدأ يضغط بأطرف أصابعه على جانبي رأسه لكنهُ تذكر ما حدث لهُ صبيحة اليوم عندما خرج حاملًا حقيبتهُ عائداً من حيثُ أتى مؤثرًا ألا تطأ قدماه منزل أحد. مجدداً بدا له العالم كله مكانا لا يصلح للعيش سوى نفسه التي بين جنبيه.
حلق لحيتهُ ونظر إلى نفسهِ فوجدها كما هي، جعلها قصيرة بعض الشيء لكن شيئًا لم يتغير كان يحدقُ بقوةِ في نفسه كأنهُ يُجاهد ليرى ما بداخلهِ أحضر سكيناً مررها على صدره علم أنهُ لن يتسنى لهُ القيامُ بذلك سيلقى حتفهُ ولن يحظى بفرصة رؤية قلبه، لكنه رأى نفسهُ على الجدار روحاً تحبُ الحياة.
سمع أصواتًا مجددًا مصدرها الصالة توجس خِيفةً خشية أن يكون لصاً توجه بِخفةِ وفتح باب الغُرفة رأى أضواءً خافتة فعلم أن شقيقهُ عاد لمشاهدة التلفاز تنهد وهم بإغلاق باب غرفته لكن كلمات خافتة شقت سكون الليل كصرخة مدوية لتستقر في داخله.
“العالم ليس مكانا فظيعا والتغيير ليس صعباً لكنهُ يصعب على بعض الذين اعتادوا ذلك يستسلمون لآلامهم ويصرون على العيش فيها نوعاً ما يخسر الكثيرون لأنهم يفعلون ذلك وعندما يفعلون يخسر الجميع”.
ورغم أنهُ كان يشعرُ باليتم يتيم ليس لأنه بلا أب أو أم أو لأنهُ لا يحظى بقدر من العلم لا فهذا ليس اليُتم وحده بل هو تلك البقعةُ المظلمة من العالم التي نسجن أنفسنا فيها صنعناها نحن أو صنعها الآخرون المهم أنا نعيش دون أن ندري فى بقعة من العالم يتيمة.
أغلق الباب بهدوء وجلس بدأ ينقرُ على المنضدة وهو ينظرُ إلى الشُعلة المضيئة.
تِك تِك تِك يتوقف إنها يتيمة.
يعاود النظر إلى الشمعة ثم يضع جبينهُ على المنضدة ويضع أصابعهُ مشدودة فوقها ينظرُ نحو الجدار فيرى ظل أصابعه يتحرك فيُقلد حركات الظل ويُفلح في أن يصدر نغماتً متتالية متناسقة.
يغمض عينيه ويستسلمُ للنوم تذوب الشمعة وتتضاءل شيئاً فشيئاً حتى انعكس ضوؤها على وجهه وهو نائم كان أسود اللون لكن صورةً مضيئةً انعكست على الجدار لوجهٍ أبيض اللون بذات الملامح وذات اللحية والرداء القصير.
ربما كانت هي اللحظة الوحيدة التي كان يمكنهُ أن يرى فيها صورة دواخله لكنه كان نائماً لم يظفر بتلك اللحظة الوحيدة.
فباتت لحظة ً يتيمة.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.