رباح الصادق: الفيروس التاجي المُستجد (2)
رباح الصادق
الفيروس التاجي المُستجد (2)
تاج انتصار أم إكليل شوك؟
كتبنا عن سُبُل تجاوُز جائحة الفيروس التاجي، التي شلت العالم وحوّلتنا لكائنات شاشاتية بحق، وفق تعبير الناقد السعودي الدكتور عبد الله الغذامي، واصفاً أثر الميديا الرقمية علينا. ووصلنا لأنّ الجمعية هي قطب رحى الفلاح، والتراخي ثغرة الفشل. ونعزم الآن بحث حالة أفريقيا في الأزمة ونحن ضمنها.
(1)
الهياكل: إنّ اجتياز الجائحة يعتمد، ضمن أُخريات، على أشياءٍ ملموسةٍ كالكادر الطبي، والأدوات الوقائية، والبنية التحتية والصحية والاقتصادية والتكنولوجية للدول، وفيها تأتي أفريقيا خلف العالم بسنواتٍ ضوئيةٍ مثلاً: عدد أجهزة التنفس الاصطناعي في أمريكا حوالي 62 ألفاً، وفي السودان حوالي 200. سكان أمريكا ثمانية أضعاف سكان السودان، بينما عدد الأجهزة (310) أضعاف!
المُستشفيات على قلّتها وضآلة عدّتها مُكدّسة في العواصم أو المُدن الكبرى، وتدريب الكادر الصحي على التعامُل مع الفاشيات متأخِّراً، ربما باستثناء بعض دول غرب أفريقيا، كنيجيريا، التي جعلتها جائحة الإيبولا مؤخراً تطوِّر نظام عزل صحي للمصابين، وتدرِّب كادراً صحياً مقدراً. كما أن الأنظمة الصحية ما زالت تجمع بياناتها ورقياً لا رقمياً في بلدان عديدة، و(هذا وباء يتحرك بسرعة كبيرة) مما يستوجب معالجة بطء نقل البيانات لمُواجهته بفعالية.
لذلك توجّس خبراء الصحة العالمية في الإقليم من تفشي الجائحة في القارة المنكوبة أصلاً بمآسٍ لا تُحصى، فلربما يشل أنظمة الرعاية الصحية الهشّة ويُدمِّر الاقتصاد، في حين الدول المانحة الأجنبية التي تُساعدها في الأزمات غارقة في فاشيتها الخاصة.
حاول البعض تفسير قِلّة الإصابات نسبياً في أفريقيا جنوب الصحراء: مُديرة مكتب منظمة الصحة العالمية بأفريقيا دكتورة ربيكا مويتي خمنت: لأنّها وأمريكا اللاتينية خارجتان للتو من الصيف. آخرون تحدّثوا عن مُعدّلات عالية للأشعة فوق البنفسجية أثناء النهار في الحزام السوداني العريض. لكن لم يثبت تفسير يعتمد في سياسة دحر الفيروس، ولا مفر من اتباع البروتوكول المعروف: الغسل والعزل.
(2)
النظام الاقتصادي لدينا جُزءٌ ضُخمٌ منه غير مُنظّم، وغالبيته اقتصاد معيشي في الريف، وهامشيٌّ في المدن، لا يحتمل أصحابه الغياب عن العمل حيث “رزق اليوم باليوم”، مما يجعل مهمة العزل الاجتماعي على النحو المُطبّق عالمياً، مُستحيلة ما لم تتبعها سياسة دعم اجتماعي تُطبّق بحزمٍ، كتوزيع الدولة للأطعمة مَجّاناً على الناس في البيوت في رواندا وإشراف رئيسها شخصياً على انضباط العملية منعاً للمحسوبية. وقدمت موريتانيا مُساعدات مالية للفقراء وأقرّت مجّانية الكهرباء والماء أثناء الأزمة.
إنّ القارة أصلاً تُعاني من وبائيات وفاشيات ترهق نظمها الصحية كالملاريا والكوليرا والسل والإيدز، فالأفارقة معتادون على الشدائد! إنّ ذاكرتنا لا تزال تحمل جائحة الإيبولا التي فتكت قبل سنواتٍ قليلة بأكثر من 11 مليون نفس، أغلبيتهم الساحقة في أفريقيا، ثم فاشية الكوليرا التي طالت الآلاف في بلادنا وسمّاها الطُغاة بـ(الإسهالات المائية). حتى قتلى الإيدز الـ35 مليوناً كان للقارة السمراء فيهم نصيب الأسد ولا تزال. فما يُقارب ثلث سُكّان جنوب أفريقيا مُصاب بالإيدز، وكورونا أشد فتكاً بهم خَاصّةً الذين لا يتعاطون علاجات وما أكثرهم.
وفي السودان، شرقه بالذات، تفشٍ للسل، وكورونا يصيب الجهاز التنفسي مِمّا يجعله مُدمِّراً لمصابي السل.
وربما كان الجانب الإيجابي الوحيد هو أنّ التشديد على غسل اليدين بالماء والصابون سيُعزِّز ثقافة النظافة مما قد يوقف انتشار أمراض أخرى خطرة.
(3)
إنّ ابتدارنا في السودان لسياسة العزل الاجتماعي وإغلاق المعابر الدولية باكراً، كان قراراً شجاعاً وحكيماً، برغم تسرب حالات الإصابة، تقديراً لمدى انهيار الخدمات الصحية في البلاد بعد ثلاثين عاماً من الجراد، ولكنه لن يجدي فتيلاً ما لم تتبعه سياسة مُدركة لواقعنا الاقتصادي المُختلف في الريف وفي المدن.
إنّ أولى خطوط الدفاع: غسل اليدين المُتكرِّر بالماء والصابون، يُواجه مشكلة حقيقيّة لدى الغالبية الساحقة من المُواطنين الذين لا يحظون بإمدادات مياه جارية بالأساس، الشيء الذي وصفته مويتي عائقاً، إضافة لصعوبة تطبيق العزل الاجتماعي حيث تعيش غالبية الأُسر في قطاطٍ ومخيّمات وأكواخ ومنازل محدودة الغُرف تجعل تطبيق التباعُد مُستحيلاً.
(4)
الثقافة: لكل فعل بشري برنامج (سوفتوير software) وراءه، داوفع، يُؤكِّد ذلك الفيلسوف الألماني ماكس فيبر صاحب علم اجتماع الدوافع. وقد ربط نهضة أوروبا بسوفتوير الكالفينية في القرن السادس عشر.
إنّ مُجابهة كوفيد 19 بفعالية وراءه سوفتوير، إضافةً للتعليم الطبي الكفء، هو الإرادة والالتزام الرسمي والانضباط الشعبي.
أما سوفتوير الفشل فوراؤه ذهنيات مُتضاربة: الاستخفاف الرسمي أو الشعبي، والخوف والأنانية والاستغلال.
إن مما يميز أفريقيا، أن لدينا جماعية عالية حتى إن ميثاق حقوق الإنسان الأفريقي اسمه “الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب”. هذا جيدٌ. من جهة أخرى فإنّ الإمبريالية والديكتاتورية أورثتا شُعوبنا الاسترابة في الدولة مِمّا يعيق اتّباع توجيهاتها المركزية، وينيخ للفساد: (الميري كتّر منه). هذا عائق. والمطلوب الاستناد على الجمعية، وتعضيد التعاون الحكومي الشعبي، ونشر ثقافة حرمة المال العام، وحرمة المُتاجرة في الإعانات وأدوات التعقيم …إلخ.
الحمد لله، إننا الآن بعد الثورة قطعنا شوطاً، فلو كان “الطفابيع” الآن على سدة الحكم لما أمكن تصديق ناطقهم في شيءٍ ولا اتباع آمرهم المشغول بإشباع جشعه الخاص.
لن تجدي سياسة دحر الفيروس التاجي المُستجد إلا بخلطة سياسات تقضي على الاستخفاف والاسترابة والاستغلال لدى البعض، والخوف الهلعي لدى آخرين، وتستنفر جيوب الشعب وسواعد الشعب من أجل الشعب. لقد بادر كثيرون الآن بالتحرُّك، وعلى الدولة أن تُنظِّم وتُدير وتدفع هذه المُبادرات في سيمفونية واحدة، ولنا في جمهورية (الاعتصام) الفاضلة أُسوةً حسنة.
إنّنا ننظر الآن بحُزنٍ لضيق الشباب الثائر من (بطولة النوم) الإجبارية، وأرى أنّ الدولة ينبغي أن تستنفر أكبر قدرٍ منهم في جُهُود مكافحة الفيروس. ينبغي أن ينشطوا الآن في مهام جمع التبرُّعات، وتوعية الناس في الطرقات، وتوزيع الأطعمة والمُعقّمات على البيوت ومُعسكرات النازحين، خاصّةً في العشوائيات التي تطوق العاصمة والمُدن الكبرى، وتعقيم المرافق العامة …إلخ، وأن تدشن مبادرة تخاطبهم على نِطَاقٍ وَاسعٍ.
(5)
لقد ظهرت الفيروسات التاجية منذ بداية الألفية الجديدة، واتّخذت اسمها من شبهها للتيجان: فكورونا باللاتينية وكراون بالإنجليزية لهما ذات المعنى. منها فيروسات مُتلازمة الالتهاب الرئوي الحاد الوخيم (سارس)، ومُتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس). وأما الطبيبان الألمعيان من سودانيي الدايسبورا: ياسر يوسف الأمين وأسامة أحمد عبد الرحيم سمّيا الفيروس بـ(الإكليل). في مقالهما بعنوان: “إكليل الشوك: كيف يعيد وباء كورونا تعريف الرعاية الصحية”، قالا إن كورونا سمي بسبب النتوءات البروتينية التي تُحيط به وتمنحه هالة تشبه الإكليل. لقد استحضرا في (إكليل الشوك) إرثاً من اللاهوت المسيحي مرتبطاً بمعاناة المسيح وصولجانه في آن، يناسب تماماً قدرة الفيروس الذي أوقف العالم على رجل، والأوجاع التي أطلقاها والمرتبطة بحاضر الإنسان ومستقبله.
تشاءم البعض كثيراً حول مستقبل العالم مع الفيروس. وهل سوف يتجاوزه محافظاً على صحة سكانه وتماسُكه الاقتصادي وقيمه الأخلاقية كما ينبغي، أم سوف يطيح بذلك أجمع؟
إن ما رأيناه بأم أعيننا في الـ58 يوماً الطوباوية التي قضيناها نحيا ونحلم ونغني هناك أعلى النفق وأسفله، تجعلنا نهزأ بالثريا، ونقول مع ود المكي:
جيل العطاءِ لك البطولاتُ الكبيرةُ والجراحُ الصادحة
ولك الحضورُ هنا بقلب العصر فوق طلوله المُتناوحة
ولك التفرّد فوق صهوات الخيول روامحا
جيل العطاءْ لعزمنا حتماً يذلُّ المستحيل وننتصرْ
وسنبدعُ الدنيا الجديدةَ وفقَ ما نهوى
ونحمل عبءَ أن نبني الحياة ونبتكرْ
وسنبتكر: كيف نحمي الضعيف، ونرعى المُحتاج، ونثقف الجاهل، ونمنع الاستغلال، ونتّبع البروتوكول الصحي المطلوب، وندحر كورونا.
نواصل بإذن الله وليبق ما بيننا
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.