الناطق الرسمي باسم وفد التفاوض الجاك محمود أحمد الجاك لـ(باج نيوز):
العلمانية تشكّل ضمان أوّحد لبناء دولةٍ قابلة للحياة
الشعب السوداني عليه أنّ يختار بين المحافظة على وحدة ما تبقى من السودان، أو التمسّك بقوانين الشريعة الإسلامية
المناخ غير مهيأ لنقل المفاوضات للخرطوم
يبدو مشوار السلام طويلًا لدى البعض، وقصيرٌ لدى آخرون، الآمال لا تنتضب في أن تُكلل المساعي بتحقيق السلام، آمالٌ يبددها تعليق التفاوض، ويحياها مجددًا توقيع اتفاق، وتبدو الأنظار مركزةً بدقة على التفاوض مع الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال لجهة طبيعة القضايا المطروحة، ومؤخرًا أعلنت الحركة عن تعليق التفاوض لـ(إسبوعين)، (باج نيوز) أجرت الحوار التالي تقييمًا لما تم وأسباب التعليق مع الناطق الرسمي باسم وفد التفاوض الجاك محمود أحمد الجاك.
حوار: إيمان كمال الدين
*ما هي أسباب تأجيل التفاوض من طرفكم؟
_رفعت الجولة الثالثة من المفاوضات بين الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال والحكومة الإنتقالية بطلبٍ من وفدنا، والهدف هو إتاحة الفرصة لوفدنا لإجراء مشاورات واسعة مع مؤسساتنا القاعدية، جاء طلب التأجيل على خلفية تعثر المحادثات وجمودها بسبب رفض وفد الحكومة الإنتقالية لعلمانية الدولة التي طرحتها الحركة الشعبية، ورفضت حتى مقترح فصل الدين عن الدولة كبديلٍ للنص على العلمانية صراحة مقروءًا مع حقّ شعبي جبال النوبة والنيل الأزرق في ممارسة حقّ تقرير المصير عبر الإستفتاء.
*لماذا الإصرار على علمانية الدولة؟
_نُؤمن ونعتقد بشدة أنّ العلمانية تشكّل ضمان أوحد لبناء دولة قابلة للحياة تقوم الحقوق والواجبات فيها على أساس المواطنة ووقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان حتى لا تتكرّر تجارب ومرارات الماضي من ظلم ٍوتهميش وإضطهاد وحروب أهلية كان وما يزال الدين طرفًا فيها، قادت الحرب الأهلية الأولى إلى انفصال جزءٍ عزيز من السودان بسبب الإصرار على فرض ثوابت الآيديولوجيا الإسلاموعروبية في بلدٍ يتسّم بالتعدد والتنوع.
*تقييمك للجولات الثلاثة؟
_فيما يتعلق بتقييم الجولات الثلاثة من المفاوضات مع حكومة الفترة الإنتقالية، نعتقد أنّنا قد تمكنّا من الإتفاق على ترتيب ملفات التفاوض وأجندتها وهذا يشكّل في تقديرنا إختراقٍ مهم فشلنا في تحقيقه في ٢٢ جولة تفاوض مع النظام السابق خلال الـ8 سنوات الماضية، فضلاً عن إتفاقٍ الطرفين على ضرورة البدء بإعلان مبادئ يشكل خارطة طريق تحكم العملية التفاوضية، معلوم أنّ إعلان المبادئ تكمن أهميته في إتفاقِ طرفي التفاوض على أهداف التفاوض وتحديد المبادئ والأجندة الرئيسية التي سيتم التفاوض حولها حتى يكون النهج التفاوضي منتج.
*دعا رئيس حركة تحرير السودان عبد الواحد لنقل المفاوضات للداخل..فما تعليقكم؟
_مع إحترامنا وتقديرنا لما جاء في تصريحات رئيس حركة تحرير السودان عبد الواحد محمد نور، إلاّ أنّنا في الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال، ولإعتبارات موضوعية معلومة للجميع لا نرى أنّ المناخ مهيأ لنقل المفاوضات للخرطوم بالنسبة لنا كقوةٍ رئيسية على الأقل ولذلك لا نتفق معه في ذلك، الحرب ما زالت مستمرّة في دارفور حيث يتمّ قتل وسحل المواطنين والنازحين الأبرياء والعُزل على أساس عرقي وعلى مرأى ومسمع الجميع، فما زالت نيالا وكريدنق وغيرها من معسكرات النازحين تنزف حتي لحظة هذا الحوار.
*ما هي فرص إمكانية التفاوض بأجندة قومية؟
_فيما يتعلق بإمكانية التفاوض على أجندة قومية، فهذا بالضبط ما تقوم الحركة الشعبية حيث نتبنى مخاطبة الجذور التاريخية للمشكلة السودانية كمدخلٍ ونهج تفاوضيّ حتى نصل لسلامٍ عادل، شامل ومستدام يضع نهاية منطقية للحرب الدائرة في البلاد، فنحن ضد تجزئة الحلول ونرى أنّ الحرب الدائرة حاليًا سواء كانت في جبال النوبة والنيل الأزرق، أو دارفور ما هي إلاّ واحدة من تمظهرات الأزمة السودانية في تلك الأقاليم، فمركز السلطة في الخرطوم هو المسئول الأول عن إنتاج وتصدير كافة المشاكل والأزمات لأقاليم السودان، وخاصة الهامش، ولذلك لا بدّ من تفكيك المركزية القابضة والقضاء على جميع ماكنيزمات التمركز والتهميش في السودان كواحدة من أبرز جذور المشكلة.
*هل هناك إمكانية لوحدة الحركة الشعبية مرة أخرى؟*
_دعيني أقول لك صراحة أنّ هناك حركة شعبية واحدة فقط موجودة على الأرض كتنظيمٍ له رؤية وبرنامج ومؤسسات. كما تمتلك الحركة الشعبية عضوية حقيقية(ملايين الأعضاء في المناطق المحررة وجميع مدن وولايات السودان) يشكلّون قواعد جماهيرية عريضة. وكتنظيم نمتلك جيش عرمرم وأراضي محررة تفوق مساحة كثير من الدول في إفريقيا وأوربا، وتمتلك الحركة وثائق مرجعية منمنفستو ودستور وبرنامج سياسي واضح تم نشره، ولها قيادة منتخبة من المؤتمر العام. لذلك أقول لك أن الحركة الشعبية بخير وهي قوية وموحدة أكثر من أيّ وقت مضي، اللهم إلا إذا كنت تتحدثين عن أشخاص بعينهم وهذا في تقديري شخصنة لتنظيم عملاق لا يفترض أن يكون محل حوار وإهدار لهذا الوقت الثمين.
*نجحت الثورة في الاطاحة بالنظام في 4 شهور وفشلتم في الإطاحة به عبر الوسائل العسكرية في ٨ سنوات..بعد كل ذلك هل تؤمنون بجدوى العمل العسكري؟
_لا شك أنّ الثورة جاءت كنتاجٍ لعملٍ تراكمي طويل قاد لخروج وإنفجار الشارع، ومعلوم بالضرورة أنّ هنالك أسباب وعوامل عديدة تضافرت وقادت إلى الإنهيار الإقتصادي الماثل بسبب تخصيص أكثر من ٧٠% من ميزانية الدولة لإدارة الحرب والصرف على الأجهزة الأمنية حيث كان النظام يصرّ ويراهن على الحلّ العسكري لأنّ نظرتهُ للمشكلة كانت أمنية، ولكنّه إنهار في نهاية المطاف إستمر في المكابرة والرهان الخاطئي حتى سقط وذهب إلى مذبلة التاريخ غير مأسوف عليه. وبالتالي لا يمكنّ إنكار دور الكفاح المسلّح في إنهاك وإضعاف النظام وإسقاطه حتى وصل إلى نهايته المحتومة، الأمر الذي جعل إنهاء الحرب أحد أبرز مطالب ثورة ديسمبر. وبالنسبة للحركة الشعبية كقوة رئيسية، فقد سجلت حضورًا ملموسًا ومشاركة قوية في الحراك الشعبي عبر تجمع المهنيين والشباب، وفي ميدان الإعتصام، وكانت لنا مواقف معلنة متسقة تمامًا مع الخط الثوري، ومؤيّدة لمطالب الثوار، وكان ذلك واضحًا من خلال بيانات وخطابات قيادة الحركة الشعبية التي عملت عل تعبئة وتثوير الشارع، ما يعني أنّ قوى المقاومة المسلّحة كانت صانع وشريك أساسي في ثورة ديسمبر.
*تطرحون العلمانية وتعلمون مدى حساسية الموضوع؟
_لا نرى أيّ منطقٍ يبرّر وجود تخوفٍ من طرح العلمانية، أو حمل حساسية مفرطة تجاهها، بالعكس نحن نرى أنّ السودان ظلّ دولة فاشلة منذ ما يسمى بالإستقلال بسبب تبنيّ الأقليّة الحاكمة لهويّة آحادية إقصائية، وإصرارها على فرض ثوابت الآيديولوجيا الإسلاموعروبية على كل السودانيين، وكذلك فإن الحكم في السودان ظل قائما على مشروعية العنف والغلبة.
*ماذا تقصد؟
_يتجلى عنف الدولة المباشر في جميع الحروبات التي شنتها الدولة وما زالت تشنها بالآلة العسكرية ضد شعوب الهامش السوداني، الإنقلابات العسكرية وقمع التظاهرات والإحتجاجات السلمية والتنكيل بالمعارضين والمناضلين الشرفاء في السجون وبيوت الأشباح. أمّا العنف غير المباشر، فهو الآخر تتمّ ممارسته عبر التشريعات والقوانين الدينية والعنصرية التي تشنّ لحراسة وحماية الأوضاع التاريخية المختلفة في السودان، بالإضافة إلى النظم واللوائح، والسياسات والتوجهات الرسمية للدولة في الإعلام ومناهج التعليم، أضف إلى ذلك إقتصاد الربع العشائري وهو إقتصاد طفيلي بالطبع. في هذا النوع من الإقتصاد يكون أصحاب الدخول ورؤوس الأموال ليسوا جزءا من عملية الإنتاج الحقيقي، والإقتصاد الريعي يقوم على الإستغلال والمحاباة والتمكين والفساد ونهب وإستنزاف الموارد والثروات لصالح فئة معينة. هذا العنف الناعم هو الأخطر على الإطلاق بإعتباره من يقف وراء الإبادة الثقافية وإقصاء الآخر وكافة أشكال التهميش الممارس ضده، ويشكل هذا العنف الهيكلي الناعم مهدد حقيقي لوجود الآخر الثقافي والعرقي والديني، وحقه في أن يكون آخر، أو مواطن يتمتع بالعدالة والمساواة وينعم بالكرامة في بلده.
*ما هي مبررات طرح النظام العلماني؟
_يتعيّن الأخذ في الإعتبار التجارب المريرة التي مررنا بها في السودان من حروب أهلية وإعلان الدولة الجهاد على جزء من الشعب السوداني وأخطر سابقة في تاريخ السودان الحديث، بالإضافة الي إرتكاب المجازر والإبادة الجماعية وإنفصال جنوب السودان. وحتى لا تتكرّر هذه التجارب مرة أخرى، وواضعين في الإعتبار التعدّد والتنوع الموجود في السودان نؤمن أنّ النظام العلماني هو الأنسب لإدارة بلدنا وعلى أساسه يمكن أنّ نصل لعقدٍ إجتماعي جديد.
*ثمة فئات ترفض النظام العلماني؟
_من يرفضون العلمانية هم النخب التي تتخوف من زوال سلطتها الوراثية وهيمنتها وإمتيازاتها التاريخية، وهذا هو بيت القصيد، أعتقد أن الشعب السوداني عليه أن يتجاوز النخب ليختار بين المحافظة على وحدة ما تبقى من السودان، أو التمسّك بقوانين الشريعة الإسلامية، لأنه لا يوجد أيّ حلٍ وسط بين هذين الخيارين إلاّ الإصرار على تكريس الأوضاع التاريخية المختّلة التي ستقود حتمًا لتجدّد وإستمرار الحرب وهو ما يعني بالضرورة إنهيار الدولة السودانية.
*لستم حريصون على الوحدة؟
_نؤكد أننّا في الحركة الشعبية وحدويون في الأساس وليس أدلّ على ذلك من حرصنا على مخاطبة الجذور التاريخية للمشكلة السودانية ورفضها تجزئة الحلول Piecemealsolutions. وهذا كله في سبيل وحدة السودان، ولكنّنا نطالب بوحدة صحيحة وعادلة تقوم على أسس جديدة، لأنهُ لا يعقل ونحن في القرن الواحد والعشرين أنّ نجادل ونصرّ على حلّ مشاكلنا بالرجوع ألف وخمسمائة عام للوراء لإستلاف الحلول من الماضي بحجة أنّ الدين خط أحمر كما جاء في التصريح المؤسف لنائب رئيس مجلس السيادة في بحر الأسبوع الماضي، فمثل هذه التصريحات تضع مصداقية الحكومة الإنتقالية علي المحك وتعوق تقدم العملية السلمية التي نخوضها بإرادة قوية وصادقة إيماننا بأنّ التغيير الذي حدث أوجد فرصة تاريخية نادرة للتوصل إلى تسوية سلمية متفاوض عليها لا ينبغي إهدارها. فلا يعقل ونحن في القرن الواحد والعشرين الدولة نظلّ نجادل ونتغالط في طبيعة الوطنية الحديثة وهي هيكليًا دولة علمانية بالضرورة تقف على مسافة واحدة من كلّ الأديان.
*المطالب التي تطرحونها في المفاوضات هناك من يرى أنّ مقام البتّ فيها المؤتمر الدستوري؟
_إذا كانت القضايا الأساسية التي تشكّل جذور المشكلة محلها المؤتمر الدستوري فعلى ماذا سنتفاوض إذًا؟ من يرون أنّ المفاوضات ليس من إختصاصها مناقشة جذور المشكلة السودانية هم مع تأجيل حلّ المشكلة ولا يرون أنّ إنهاء الحرب وتحقيق السلام قضية إستراتيجية يجب أنّ تحتل سلم الأولويات. أمّا ما يسمى بالمؤتمر الدستوري فلنا موقف صريح رافض له.
*لماذا؟
_لجهة أنّه خطوة لإستنساخ تجربة مؤتمر الحوار الوطني، وإصطفاف مبكرّ لقوى الثورة المضادة المتواطئة آيديولوجيا للإلتفاف على العلمانية وفرض ثوابت الهوية الإسلاموعروبية بأغلبية ميكانيكية زائفة، خاصة في ظلّ وجود أكثر من مائة وثلاثين حزبًا مسجلاً كلها صنيعة نظام المؤتمر الوطني البائد، معلوم أنّ الشريعة الإسلامية تمّ فرضها بقرارٍ فردي من الرئيس الأسبق جعفر النميري، وأعيد فرضها بقرارٍ من فردي مرة أخرى من الجبهة الإسلامية القومية بعد إنقلاب ٣٠ يونيو المشؤوم، فلماذا يصرّ هؤلاء على ضرورة إحالة مناقشتها إلى المؤتمر الدستوري؟! هذه “أونطة وإستهبال سياسي.”
*هل يمكن أنّ نرى الحلو في الخرطوم؟
_أرى أنّهُ من السابق لأوانه الحديث عن وصول الحلو إلى الخرطوم، فنحن ما زلنا في عتبة التفاوض الأولى لم ننجز حتى الإتفاق على إعلان المبادئ، وفي ذات الوقت لم تتخذ الحكومة الإنتقالية حتى الآن من الإصلاحات والإجراءات الكافية لبناء الثقة تتناسب مع طبيعة ومطلوبات المرحلة.
*هناك العديد من الإجراءات التي تمت؟
_نعم، لقد وافقت الحكومة الإنتقالية مثلاً على دخول المساعدات الإنسانية من جميع المسارات وهذه خطوة قوبلت من قيادتنا بتسجيلِ صوت شكر وإشادة مستحقة. ولكنّ على الصعيد القانوني لم يحدث سوى إلغاء قانون النظام العام وهو في رأينا لا يعدو كونه فهلوة وعمل إنتقائي لا يرقى لمستوى الإصلاحات القانونية المرجوة، فما أشبه الليلة بالبارحة؟! مثلًا نحن طلبنا من الحكومة الإنتقالية إلغاء قوانين الشريعة الإسلامية بمرسومٍ أو قرارٍ كخطوة مهمة ومطلوبة لبناء الثقة وتؤكّد مصداقية سلطة الأمر الواقع وجدتها في التغيير الجذري وتحقيق أهداف الثورة وفي مقدمتها تصفية النظام السابق وكنس آثاره مرة واحدة وإلى الأبد.
*ماذا كان ردّ الوفد الحكومي؟
_قوبل طلبنا بالرفض الفوري والشديد، ولم يتم حتى تجميد تلك القوانين كبادرة لحسن النوايا، والأخطر أنّ الوثيقة الدستورية هي الأخرى قد سكتت عن إلغاء قوانين الشريعة الإسلامية التي ما زالت هي القوانين السائدة والنافذة في السودان، كما أنّ السبب في جمود وتعثر المفاوضات هو تبنيّ وفد حكومة الفترة الإنتقالية المفاوض لذات الموقف. عليه، لا يعقل أنّ ندفع بقمّة قيادتنا للذهاب إلى الخرطوم في ظلّ هذا الواقع وكأننّا نساوم ونجامل في القضايا والمواقف المبدئية، فنحن أصحاب مبادئ نريد حلولًا جذرية ولا نتهافت نحو المحاصصة على السلطة كما يفعل الآخرون.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.