الخرطوم: إيمان كمال الدين
“يا أحمد أصبر، يا أحمد أصبر”، هكذا قال رفيق المعلم أحمد الخير وهم على متن أحد “تاتشرات” الأمن، مخاطباً إياه في محاولة للتخفيف عن آلامه أثناء تعرضهما للضرب، أما آخر ما قاله أحمد رداً على رفيقه: “ما قادر أنا تعبان، أنا تعبان”، ثم لفظ أنفاسه الأخيرة بعدها، ليسكن جسدهُ إلى الأبد، ورغم ذلك لم يتوقف الضرب على جسده ووجهه.
بكاء وهتاف
لم يتمالك سعد الخير شقيق أحمد الخير، نفسهُ وانهار باكيًا عاجزًا عن الوقوف عندما خيرهُ قاضي المحكمة أمس بين العفو أو القصاص، لم يبد سعد مترددًا تجاه ما سيقول، كلمةٌ واحدة كانت هي الفاصلة ليُعيد سعد لشقيقه أحمد “حقه” كما ظل يقول دائماً، لذا لم يكن رده سوى “نطالب بالقصاص” ليعلو التكبير في قاعة المحكمة.
الهتافات والتكبير ضجت بقاعة المحكمة أيضًا فور انتهاء قاضي المحكمة من تلاوة الحكم تجاه المُهتمين، فيما انخرط البقيةُ في البكاء.
الحشود التي رابطت قرب مجمع محاكم الأوسط أم درمان “ميدان الخليفة” منذ الصباح الباكر أمس لم تتوقف عن الهتاف “الشعب يريد قصاص الشهيد”، “يا عسكر مافي حصانة، يا المشنقة يا الزنزانة”، “الدم قصاد الدم ما بنقبل الدية”.
ورغم طول الوقت الذي استغرقتهُ المحاكمة، ظلت الحشود تتوافد رافعين صورة “الشهيد أحمد الخير” وهتافات “لا راعى للأمات، لا أمي لا أمك”. وفور علمهم بصدور الحكم كان الهتاف “يحيا العدل”.
تفاصيل ما حدث
يقول شقيق الشهيد “سعد الخير” في حديث سابق لـ (باج نيوز): “حين أبلغوني بنبأ وفاته لم أتمالك نفسي وأصبت بإنهيار، وحين وصل جثمانهُ بعربة الإسعاف من كسلا وكشفت عن وجهه وجسده أدركتُ أنهُ مات تحت التعذيب”.
ماذا قالت النيابة؟
أحمد الخير شغلت تفاصيل قصته الرأي العام طيلة الأيام الماضية جراء وقائع التعذيب التي تم تداولها وتعرض لها بمكاتب الأمن بخشم القربة، بحسب إفادات المعتقلين معه، وكشفت النيابة العامة مساء السابع من فبراير في مؤتمر صحفي، أن الخير توفي جراء التعذيب بآلة حادة، وأنها خاطبت مدير الأمن بولاية كسلا لمدها بأسماء الأفراد الذين حققوا مع الخير وأحضروه إلى كسلا.
وقال رئيس لجنة التحقيق حول أحداث الاحتجاجات عامر محمد إبراهيم، إن الفحص والتشريح حول الجثة أثبت وجود إصابات حيوية وحديثة وكدمات في الكلية اليمنى والفخذ الأيمن ومنتصف الساقين، وأشار إلى أن ذلك حدث بآلة حادة ولم يُثبت أيّ معالم اغتصاب.
بشارة خير
من جانبه، وصف سعد الخير يومها، تقرير النيابة العامة وتقرير الطبيب الشرعي حول وفاة شقيقه بأنه “بُشارة خير” في سبيل تحقيق العدالة، وأشار إلى أن مبعوث النيابة عندما زارهم طمأنهم على تحقيق العدالة والقصاص، وأشهد الله أمامهم بأن يكون محايداً في رفع حيثيات القضية، ولفت إلى أن كل من كان مع أحمد الخير في المعتقل وتعرضه للتعذيب سيكشف عن تفاصيل ستقود لأشياء كثيرة، وأن النائب العام فتح المجال لأيّ شخص ليقول ويدلي بأيّ معلومة حول القضية وأنه سيضمن سلامته.
عن أحمد الخير
الخير الذي اعتقلته السلطات الأمنية من منزله بمدينة خشم القربة يوم الخميس 31 يناير 2019م، على خلفية مشاركته في احتجاجات تطالب بإسقاط النظام فيما يعرف بموكب “الزحف الأكبر”، يقول عنهُ شقيقه سعد الخير، إنه غير متزوج من مواليد الثاني من فبراير 1983م انتمى للحركة الإسلامية مع دخوله للثانوي في 1997م وبعد المفاصلة انتمى للمؤتمر الوطني، لم يلبثْ كثيراً في انتمائه للوطني وتركهُ ولم يكن لهُ حراك سياسي كبير داخل الجامعة، ووصف أحمد بـ” ذو الشخصيةٍ المرحة”، نزيه اليد وعفيف اللسان لا يُمكن إغراؤهُ بالمال ويجاهر بآرائه دوماً، درس علوم حاسوب والتحق بمهنة التعليم في العام 2007م.
تلقي نبأ الوفاة
سعد الخير تحدث حول تفاصيل ما حدث لشقيقه وتلقيه نبأ الوفاة، كاشفاً أنه عقب اعتقال شقيقه بعد المغرب اتصل بأحد أفراد الأمن، وأضاف: “أخبرني أنه سيتم ترحيل أحمد ومن معه غداً إلى كسلا، وكان من ضمن المعتقلين أيضاً حسن وهو أحد أبناء خالتي وأخبرني خالي في اتصال أن حسن سيفرج عنه وسيرحل أحمد و6 أشخاص إلى كسلا”. وتابع: قبل أن أتوجه لمكاتب الأمن بخشم القربة اتصلت على أحد أفراد الأمن وسألتهُ إذا كان هناك أمل في أن يطلقوا سراحهم فرد عليّ أن شقيقي أحمد في قيادة الإحتجاجات وهو من يتبناها ويحركها وسيتم ترحيلهم الى كسلا وإن شاء الله يحصل خير. ويعلق الخير بقوله: “في ذلك الوقت كانوا قد أذاقوهم كل أنواع التعذيب”. وأشار الى أنهُ عقب صلاة العشاء تأخر في الطريق إلى مكاتب الأمن لجهة عدم وجود مواصلات وفي أثناء ذلك أتصل به خالهُ ولم يسمح لهم برؤية المعتقلين.
ووصل سعد لمكاتب خشم القربة عند السابعة وخمس وثلاثون دقيقة ويقول: “عند وصولنا كان المكان مظلماً، وأول ما رأيناه هو خروج “تاتشر” بصورة سريعة فعلقت لمن معي “التاتشر دا فيهو ناس شايلنهم” فرد عليّ من معي: “يمكن الناس ديل مودينهم كسلا”.
ثم خرج “تاتشر” آخر بسرعة، وبحسب سعد كان يظهر أن هناك أشخاصاً محمولون على متنه، ويضيف: “لم أكن أستطيع أن أجزم وقتها بأن من كانوا على متنه هم أحمد ورفاقه”. وأشار إلى إنكار السلطات هناك فيما بعد نقل أحمد ومن معه في هذه السيارات.
تحري واستجواب
دلف سعد ومن معهُ لمكاتب الأمن بخشم القربة، يقول: “تحدثنا مع شخصين وقت صلاة الجمعة فقالوا أن المعتقلين في التحري، والآن سيتم ترحيلهم الى كسلا وعلينا المتابعة من هناك”.
ويشير الخير إلى سؤاله للضابط عن موقفهم، فأجابهُ بالقول: “هناك تحقيقات واستجواب ويجب أن يتقدم أحمد ورفاقهُ لمحاكمة عادلة وأن التحقيقات حتى ترفع أقوالهم”. ونوه إلى أن حديث الضابط معهُ كان مطمئناً لحد كبير، إذ قال له “نحن نقوم بهذه التحقيقات حتى لا يُظلم أحد وتكون المحاكمات عادلة والرؤية واضحة”، بينما في ذات الوقت كان أحمد ومن معهُ قد تعرضوا للتعذيب، وكان أحمد قد فارق الحياة لأن جثمانهُ دخل كسلا عند الساعة الثامنة والنصف.
اتصالات متعددة
اتصالاتٌ عديدة قام بها سعد الخير مع ضابط الأمن المسؤول إلى المعتمد الذي أخبرهم أن الأمر قد خرج من بين يديه وكان ذلك في التاسعة والثلث من مساء يوم الجمعة، ويضيف الخير: “توجهت للمبيت ببيت جدي وعند العاشرة والنصف مساءاً إتصل بي مديري في المؤسسة التي أعمل بها مستفسراً عن أحمد وأعتقاله”. وعند الساعة الـ 12 و13 دقيقة عاود مدير سعد الخير الأتصال به ليخبره أن جهاز الأمن أتصلوا به وطلبوا حضوره في المكتب، يقول سعد: “توجهت للمكتب وبرفقتي مديري وعند وصولي وجدت عددا من أفراد الأمن جالسين في الخارج، صافحتهم يداً بيد، ووجدت ضابط جيش برتبة نقيب وعدد من أفراد الشرطة ورجلان في الخمسينات من العمر أحدهما ملتحٍ والآخر “أزرق وطويل”- حد توصيفه.
حتى هذه اللحظة بحسب سعد، فإنه كان متفائلاً حيال مصير شقيقه، واضاف: “جلستُ بمعية بعض المعارف وأقاربي أمام المعتمد الذي قال: “بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله، ياخي أحمد دة قالوا تعب ونقلوه للمستشفى ثم توفي”.
شهادات المعتقلين
دون إبداء أسباب واضحة حول وفاة أحمد تلقى سعد النبأ بصدمةٍ وانهيار فاقداً القدرة على تمالك نفسه ويقول: “استرجعت الله وكنت حتى لحظة إبلاغي بنبأ وفاته أظن أن الوفاة حدثت في وقتٍ قريب، لكنهُ كان قد توفي مساء السبت الثامنة والنصف”.
شهادات المعتقلين مع أحمد أماطت اللثام حول تفاصيل مقتله فبعد وفاته تم جر جثمانه من العربة كان أحدهم يضربهُ بالكف على وجهه يمنةً ويسرة، وحينها قال لهم أحد المعتقلين معهُ بحسب سعد: “الزول دة مات خلوه” الزول دة كان بيتألم، فكان الرد من أحد أفراد الأمن: “ما تموتوا كلكم فداء الثورة كدة كويس، موتوا كلكم”.
ويمضي سعد الخير في حديثه: “نحن لن نعتمد على التشريح فقط بل على شهادات من كانوا معه، وستشكل لهم حماية حتى لا يتعرض لهم أحد”.
تشريح الجثة
عقب تأكد أفراد الأمن أن أحمد فارق الحياة بدأت مسرحية أخرى بحسب سعد وهي في كيفية إخراج الجثمان ومواراة الموضوع.
سعد في حديثه لـ (باج نيوز)، أقرّ بصعوبة توجهه لكسلا لإحضار جثمان شقيقه لجهة الحالة التي كان فيها، بالإضافة إلى أن كسلا لم يكن فيها مشرحة بحسب حديث المدير الطبي له، وأشار إلى اتصال مديره محمد عوض بمدير عام وزارة الصحة الذي تعهد بتوفير عربة الإسعاف التي آتى فيها جثمان أحمد.
ويقول: “خرجنا قبل الفجر وصليناهُ في الطريق وعند وصول الإسعاف فككت الرباط عن الجثمان لم أتمالك نفسي كانت آثار التعذيب على جسد أحمد، التراب، أزرار قميصه مفتوحة، جرح تسلخي عند فم المعدة، رقبتهُ وأضلاعهُ تحت الإبط كلها متورمة، وأول ما قلتهُ لهم أنهم عذبوه حتى مات”.
تفاصيل التشريح
عقب أخذ بيانات أحمد من شقيقه والإمضاء بالموافقة على تشريح الجثة، أصر سعد على حضور التشريح لكونه ممرضاً ورغم منع الضابط المتحري له إلا أن الطبيب سمح لهُ بذلك.
لم يقترب أحمد من جثة شقيقه أو يلمسها بل وقف ينظر لإجراءات الطبيب ويسرد تفاصيل ما رآه قائلاً: “جردوه من الملابس إلا من المنتصف وأخذوا عينات الملابس، كانت هناك كدمات يتدرج لونها باللون الأحمر والداكن، كانت آثار التعذيب على جسده واضحة. أما المفاجأة فكانت آثار الضرب التي ملأت ظهره وبقع الدم ما بين الأحمر والداكن، أما الإليتَيْن فكان لونهما أسود، الأعضاء التناسلية سليمة، لكن كان هناك سيلان من الدبر كُنت أرجح أنهُ دم ولكن يمكن حتى للشخص بعد أن يموت أن تخرج إفرازات من جسده”، ويؤكد سعد بقوله: “نحن لم نقل أنهُ تم إدخال سيخة ولم نر ذلك ونشهد الله على ما قلناه وما رأيتهُ”.
خرج سعد بعدها ولم يكمل وأخبر الناس بما رأى، ويسرد مشهداً آخر عند توجهه للحمامات وعند الوضوء يقول: “وجدت ذات المتحري في حالة هستيرية ويبكي”.
شهادات الرفاق
بعض الشهادات خرجت ممن كانوا برفقة أحمد ومنهم “أمجد” الذي أوضح أنه وجهت لهم ألفاظ جنسية وكلام قبيح، أمجد بحسب شهادته تم تمزيق جلبابه الذي كان يرتديه وكان يتم ضربه ونخزهُ على الدبر هو وأحمد الذي جُرد من بنطاله في لحظة انهيار وذاق شتى أنواع التعذيب، وبحسب سعد فإن ثلاثة ممن كانوا بمعية أحمد مصابون بالفشل الكلوي وغير قادرين على التبول.
وحول التسمم الذي قيل أن أحمد توفي نتيجةً له يقول الخير: “عندما أحضروا الأكل لهم كان متعفناً وغير صالح للأكل، ويشهد الجميع أن أحمد لم يضع لقمةً منهُ في فمه فمن كثرة التعذيب لم يستطع أن يأكل، ولفت إلى أن ابن خالته الذي كان معتقلاً أكل من ذلك الأكل حيثُ قال: “جعان، أعمل شنو؟ أكلته”، ولم يصب بشيء.
جدل الانتماء
حتى عند الموت تظل السياسية بتجاذباتها حاضرة، عقب وفاة أحمد زار عدد من قيادات المؤتمر الشعبي خشم القربة مؤدين واجب العزاء فيه، كما عقد الشعبي مؤتمراً صحفياً ينعي فيه الخير بقوله: “عضو المؤتمر الشعبي”.
وحول دليل الشعبي، أشار الأمين السياسي للحزب إدريس سليمان في وقت سابق لـ (باج نيوز)، إلى أن الفقيد عند سؤاله عن إنتمائه السياسي في المعتقل أقرّ بأنه ينتمي للمؤتمر الشعبي.
بالمقابل، ينفي سعد الخير إنتماء شقيقه للشعبي، ويقول إنهُ عقب مغادرته للمؤتمر الوطني ترك كل الأحزاب السياسية، وصار ناشطاً حتى أنهُ كان يقول لـ “ناس الوطني”: أنا معاكم لكن الصاح صاح، والغلط غلط، وأضاف: “ناس الشعبي كانوا قريبين منه بحسب الأفكار”.
ويقول الخير: “أنا لا أعلم لماذا قال أحمد أنهُ مؤتمر شعبي، لكنهُ استفز الضابط بذلك وقال له بحسب شهادات من كانوا معه: أنت بتعرف شنو عن الحركة الإسلامية، بتعرف شنو عن المؤتمر الشعبي؟”. وأوضح أن حديث أحمد كان فيه تجهيل للضابط واستفزهُ بذلك الحديث فتم التشديد عليه عند التعذيب.
من جانبه، أكد مصدر لـ (باج نيوز)، عدم إنتماء أحمد الخير للمؤتمر الشعبي، ولفت إلى أنهُ من قام بتجنيده للحركة الإسلامية في 1997م وأن أحمد شغل منصب أمين طلاب المؤتمر الوطني بخشم القربة في 2008م وحتى ذلك الوقت كان يحضر إجتماعات الحزب، ثم صار “مغاضباً” بعدها على إثر خلافات جعلتهُ بعيداً.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.