باج نيوز
موقع إخباري - أخبار اراء تحليلات تحقيقات بكل شفافية
Baraka Ins 1135*120

إيمان كمال الدين: وجه ريفي

1٬158

جذبتُ طاولتي القديمة، وذات الكرسي الذي كنتُ أجلس عليه في صغري، كل شيءٍ كما هو إلا أنا، ورغم تغير أثاث المنزل والتخلص من كل ما هو قديم، إلا أن هذه الطاولة لم تبرح مكانها بعد، فبعض الأشياء تسكنها أرواحنا فيصعبُ علينا التخلص منها مهما بدا البديل حديثاً وجميلاً وليس كل جمالٍ يسكُن النفس.
ما زلتُ أحتفظ ببعض الأوراق القديمة؛ بعض ورق الهدايا ورسائل لأصدقاء الطفولة ودفاتر بثثتها كل طفولتي وأحلامي، وأنا التي تاهت مني وما عادت، حتى أكياس الهدايا أحتفظ بها إلا ما فقدتهُ من دون قصدٍ أو أَتلَفَهُ أحدٌ ما وهو لا يدري، أو فقدتها بسبب ارتحالنا من مكانٍ إلى مكان، جلستُ على الكرسي، اتكأت على الطاولة فأحدَثَت صريراً، فسَرَت القشعريرة في جسدي، لكنه كان صوتاً عذباً إذ أنهُ عَزَفَ في النفس لحناً قديماً.
أمامي ورقة بيضاء أخذتها من دفتر الرسم لأختي وقلم رصاص، لطالما تمنيت لو كنت أجيد الرسم، فنٌّ راقٍ وآسر، تُختَزَل آلاف الكلمات وكل فوضى الأحاسيس والمشاعر في لوحة! ووجهٌ يُعبِّر عن آلاف الوجوه. كثيرٌ ما تُعجزني الكلمات، فأقف حينها حيرى أمام مكنون النفس. عموماً أخذت القلم وبدأت أحاول الرسم، مضت نصف ساعة وأنا واضعة القلم على فمي حتى كاد أن يتآكل. ترى كيف يرسمون؟ ناديت على شقيقتي الصغرى وسألتها: كيف ترسمين؟ ابتسمت وقالت: ما الذي ترغبين في رسمه؟ قلت: وجهٌ ما، قالت مجيبة مع أن إجابتها كانت كسؤالي: ارسمي الوجه الذي تريدينه، وحده الإحساس الذي تشعرين به سيتشكل داخل اللوحة في العينين، النظرات، الجلسة، ممسكة بكتاب، أو ورقة و…. قاطعتها وأنا أنفجر ضاحكة حتى دمعت عيناي وأشرت إليها بأن تغادر الغرفة وتغلق الباب وراءها لأن صرير الطاولة أزعج والدتي.
ضحكتْ (فسر الماء بعد جهد بالماء)، كفكفت دمعي وقلتُ في نفسي: أنا أعلم هذا لكن كيف أرسم ذلك الوجه؟! تنهدتُ تنهيدة عميقة واسترخيتُ على الكرسي، وضعت أقدامي فوق الطاولة وعقدت يديَّ خلف رأسي.
ما زلتُ أبحثُ عن ملامح تلك الفتاة الريفية، ما زلت أبحثُ عن ذلك الوجه الذي غادر قريتنا الصغيرة؛ مضت أعوام على تلك القصة، لا أدري كيف شكل القرية الآن، ولا من يسكنها، لا أعلم إن كانوا يذكرون تلك القصة أم؟ لكني أعتقد أن لا أحد في القرية ينسى، حتى وإن كان سراً، أو أسطورة يُخشى عند سماعها أن تحلّ بهم لعنة كما يزعمون، فهم يتداولونها في الخفاء وهمسًا فيما بينهم، لكن كل حكايا القرية وأساطيرها كانت تصل إلى مسامعنا نحن الصغار، في القرية لا شيء يخفى والكل يراك إلا إن كنت من الجن فهذه ليس لأهل القرية عليها سبيل.
كانت تعجبني قريتي، ولكني كنت أكره انعدام الخصوصية فيها ولربما ما زال هذا دأبهم،لعل تلك الحكاية ما زالوا يتداولونها لكن لا أحد يعلم الحقيقة سواي، أن تحمل لوحدك وزر الحقيقة، وحدك تعلم من الجاني ومن المجني عليه، تحمل وزرها عندما تلتزم الصمت، هي طلبت مني ذلك قالت: لا تُخبري أحداً.
مُنذ أن رأيتها تحمل حقيبتها وتتلحف بعباءتها السوداء تملأ الدموع عينيها تجر أقدامها جراً كأنها في سكرات الموت، ركضتُ نحوها أمسكتُ بيدي الصغيرة عباءتها فتوقَّفتْ وقد دبَّ الرعب في قلبها، وعندما نَظَرَت إلى الوجه الممسك بعباءتها اطمأنت لوجه الطفلة الصغيرة وقالت لي بصوت ملؤه الحزن: ماذا تريدين؟ لِمَ تبعتِني في الظلام؟ عودي إلى القرية، قلت: والعبرة تخنقني وتخرج الكلمات بصعوبة مني، لا تذهبي، لا تغادري، أخبريهم بالحقيقة وأنا أيضاً سأخبرهم بها، سأشهدُ معك على كل شيء، سأقسم على المصحف، سنفعل ذلك معًا، لا تذهبي، جلستْ على الأرض ووضعت يدها على رأسي، مَسَحت بأناملها دموعي أفلتت بقوة يدي الصغيرة المتشبثة بعباءتها وقبّلت يدي الصغيرة وقالت: لن يصدقني أحد، لن يصدقك أحد، لن يصدقنا أحد. وذَهَبت، حاولت أن أمسك بها لكني لم أستطع، كان آخر وجه صادق في قريتنا الملأى بالأساطير والخرافات، وحدها كانت تقول الحقيقة.
عدتُ أدراجي إلى قريتنا ونفسي منذ ذلك الوقت تحدثني: يصدقوننا فقط عندما يرغبون في ذلك، عندما تأتي الحقيقة على أهوائهم هم لا على وجهها الحقيقي. صباحًا استيقظتُ على ضجيجٍ في قريتنا، خرجت ووقفت بباب المنزل كان يُنادى في القرية لاجتماع، كان يجتمع الكبار ونتسلل نحن الصغار خلسة مع أنه لا شيء يخفى، كلهم كانوا يتحدثون عنها؛ بعضهم يتحدث جهرًا وبعضهم يقول لعمدة القرية “أنا رأيتها وهي خارجة”، والبعض الآخر يهمس همسًا يمكن سماعه وإن لم تسمع ستعلم ما يقولون من نظرات عيونهم الجزلى (اختطفها الجني). كل مصائب قريتنا تقع على كاهل ذلك الجني الذي لو كان موجوداً لولَّى هارباً من قريتنا من كثرة المصائب التي تُلقى على عاتقه، وقد كنتُ أرى كل فردٍ من أفراد قريتنا هو هذا الجني، والكل يقول أنا رأيتُ وما رأى أحد.
عدتُ إلى منزلنا فوجدت والدتي تتحدث في الهاتف، نادتني وقالت: تعالي سلِّمي على والدك، أمي وحدها في القرية من كانت تملك هاتفًا نقالاً، كانت نساء القرية دائمًا ما يأتين إلى منزلنا يستخدمنه، سلمتُ على والدي وقلت له بصوت مخنوق: أبي متى ستعود؟ أنا أريد أن آتي معك، لا أريد البقاء هنا، ووعدني خيرًا حينها، علمت بعدها أن والدتي حدثتهُ برحيلنا من القرية. أسبوعان وأتى والدي، حزمنا أمتعتنا وغادرنا القرية الصغيرة، ركبنا القطار، كانت أول مرة أغادر القرية وأستقل القطار، حينها جلستُ قرب النافذة، كنتُ أطالع الوجوه التي تمر بي على طول الطريق، أتفرس في ملامحهم وأبحث عنها لعلِّي أجدها، وأتساءل إن كنتُ سأجدها في المدينة حيث سنقيم، ولكني وجدت المدينة كبيرة، تبدو قريتنا كبيت صغير من بيوتها، فشعرت بخيبة أمل كبيرة.
منذ ذلك الوقت وأنا لا أختار إلا الجلوس بقرب النافذة أينما كنت في الفصل، في الباص، في القاعة، حتى في غرفتي: سريري بجوار النافذة. من يومها وأنا أبحثُ عن ذلك الوجه الريفي القديم، وما زلت أبحثُ عن ملامح تلك الفتاة.
اعتدلتُ في جلستي تأملتُ ورقتي البيضاء جليًا، أخذتُ عملةً معدنية موضوعة على طرف الطاولة ورسمت بها دائرة بلا ملامح، طرقت أختي الباب مدت رأسها قالت مبتسمة: هل أساعدك؟ قلت: تعالي لقد انتهيت من لوحتي. دَلَفت مسرعة لترى ما رسمت أصابتها الحيرة وقالت: هذا وجه دائري!! والصفحة بيضاء، أين لوحتك؟ وجه من كنت تريدين أن ترسمي، هذا الوجه فارغ هل أساعدك في إكمالها؟ قلت: لا، لوحتي اكتملت، منذ ذلك الوقت وحتى هذه اللحظة أنا أبحثُ عنها وأبحث عن الحقيقة، وحدها الحقيقة في حياتي ما أبحث عنها، لوحتي فقط هي ما اكتملت؛ هذا وجه الحقيقة.
أما الحقيقة، فأنا ما زلتُ أبحثُ عن ملامح تلك الفتاة الريفية.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

error: