جلال الدقير فى رثاء الشموم الهندي
شموم و الرمزيه للمرأة فى شموخها و كبريائها و عطائها
فى تاء التانيث تكمن شفرة الوجود حياة و رحيلاً
..، كانت الأرض أولاً ثم كان الإنسان ومن طينة أديمها خُلق فهي أمه و هذه الأرض (أنثى)
… و الْحَيَاةُ كانت قبلاً و من روحها الساري بُثت في الأحياء فدبت فيهم حركةً و حرارة فالحياة أم الأحياء و الحياة (أنثى)
… و في البدء كانت الكلمة و منها تشرّع الكلام و تفرع و من رحمها ولدت كل مظاهر التخاطب و التفاعل و التحاور فالكلمة هي أم المتكلمين و الكلمة (أنثى)
إن مظلة القيم التي تظلل صفة الأنوثة لهي مظلة واسعة الطيف غنية الألوان زاخرة بالتنوع و التعدد و حتماً كانت حكمة الله أزلاً حائطةً بما أودعه في الأنوثة من عالي المضامين و جميل الشيم و بديع الصنع فأنث سبحانه لأجلها صفات الوجود الكبرى و قيمه العليا
و إذا ما عجمنا و محصّنا و مخضّنا كل صفات التأنيث التي جعلها الله عناوين و أسماء لصفات الوجود و قيمه فلا شك أن صفة (الأمومة) هي الأجل و الأنقى و الأقدس عند الله و الناس
فمن حبل الأمومة السُري تسري مظاهر الحياة في الأجنة ومن عنايتها و رعايتها تنسرب المعارف في الطفولة الباكرة و الصِبا كما في الفتوة و الشباب و من فيض حنانها يستمد الكبار مهما كبرو مدد لا ينقطع من المعنويات و المحفزات و جميل الصلات.
و الامومة بمعناها الشامل الفسيح ليست فقط ما نشاهده دائماً ماثلاً أمام أنظارنا في مشاهد الأمومة الطبيعية بين الوالدة و مولودها لكن الأمومة فعلها متعدي متجاوزاً للأمومة النمطية الطبيعية فهناك أمهات للمعاني ولّادات للمكارم و الفضائل و الندى مرضعات للعفاف و الجمال و الهدى هُن كُثر على مسرح الوجود و سفر التاريخ يجود بهن الزمان و لا يبتذلهن هُن تلكم الفاضلات الكريمات النقيات الناشرات لعالي القيم و المضامين بفعلهم الأمومي المتجاوز لأبناء بطونهن و الشامل لمحيطهن …
من التأريخ يأتينا نبأ عن نسوةِِ أطلق عليهن (أمهات آبائهن)
فمن هي (أم أبيها) ؟
إن لم تكن هي تلك المرأة ذات الفعل الأمومي المتعدي المتجاوز لمن ولدتهم ..
إنها تلك الطفلة التي تنزل من بطن أمها و على محيّاها ترتسم ملامح أمومتها الباكرة تكبر معها يوماً بيوم و عاماً بعام تشع بأمومتها الباكرة هذه على والديها و إخوتها صغاراً و كبارا ثم على أسرتها و محيطها..
أم أبيها هذه هي التي يزيدها العُرف السوداني النبيل دلالاً و تيهاً ثم ألقاً و بهاءاً حين يطلق عليها (ست أبوها) ..
بين يدي الموت و جسر رحيله المنصوب فوق رؤوس الخلائق( فالكل وارده و عابره) و بين يدي الرضا بقضاء الله و أمره الذي لا مرد له نحتسب عنده حامدين إنسانة أنموذج وإبنة و أخت أنموذج و زوجة أنموذج و فوق هذا و ذاك و ذلك (أُم) أنموذج فيها كل صفات الأمومة التي أتينا عليها آنفاً هي بحق أُم أبيها و هي بصدق (ست أبوّها) إنها فرع وارف ظليل من دوحة آل الشريف الهندي السامقة المكتنزة بالمآثر و جلائل الاعمال و جميل الخصال المحتشدة بالقامات من ذوي الهمم العالية و العطاء اللامحدود إن الراحلة عنا شموم الشريف عبد الرحيم الهندي كانت تتمثل فيها كل صفات و مآثر آل ود الهندي وتتجسد فيها .. كانت تمثل شرفهم الباذخ جميعاً أمواتاً و أحياءا تضع إرثهم بين عينيها و تسير بدفعهم بين الناس…
اسماها ابوها تيمناً بجدته شموم والدة القطب الربانى الاشهر الشريف يوسف الهندى. شموم الجدة هي سليلة الأرباب أحمد ود الزين السرورابي أحد زعماء و مكوك الجموعية الكبار فيه و في بيته ثراء عريض وهيط في المال و المكرمات و فيه عزة قعساء. إختارتها عناية الله و ساقت لها قطب قراءات و علوم القرءان في القطر السوداني الشريف محمد الامين الهندى الذى تنتهي عنده جل أسانيد القرّاء و الحُفاظ لم يسبقه في علم القراءات سابق و لم يخلفه لاحق فإقترن بها و مضى بها إلى فجِِ بعيد عن مرابعها و مراتع صباها و بعد تسيارِِ طويل كعادة حملة القرءان عبر حقب التاريخ تشطّ بهم غربة النوى أفانين في الآفاق مفترقاتِ إلى أن حطت بهما المشيئة عند (نوارة) الرهد فكانت أول جامعة لتحفيظ القرءان الكريم و تدريس علومه أمها الألوف الكثيرة من الحُفاظ و الدُرّاس و الذُكّار كل يبغي مبتغاه و يريد ليلاه و عند ود الهندي المبتغى و الليلى و الضالة هذا هو المشهد في ظاهره لكن للمشهد خلفية هذه الخلفية كانت مثابة القرار و منصة الإنطلاق التي كانت تنطلق منها سليلة المكوك الأرابيب شموم لتمارس دورها الأمومي العابر نحو الأفق الإنساني المفتوح على المطلق كانت شموم تتعهد الزاد و الرُقاد و تُهيء الأسباب للزوج و للطلاب و الأضياف…
للحبل السُري قفزات عبر الأجيال وللجينات في تسلسلها تنحِِ و ظهور فمن فاته رؤية مشهد شموم الجدة في نوارة الرهد مع ود الهندي الجد و لم يسعفه الخيال لصنع الصورة القريبة من الأصل فما عليه إلا أن يستدعي الذاكرة القريبة ليشاهد فيها بجلاءِِ صورة شموم الحفيدة الفقيدة تعيد للبصائر و الأبصار دور الجدة مع الجد لكنه هذه المرة مع العم و ما أدراك ما العم إنه الشريف الحسين الهندي أيقونة الثوار و أباة الضيم عبر التاريخ فقد كانت له شمومه كما الجد تماماً. كان ضيوف الحسين الشهيد بالألاف و كان مرضاه بالالاف و كان طلابه بالألاف و حقاً أقول كان كل هؤلاء ضيوفاً و مرضى و طلاباً لشموم تُمارس نفس دور الجدة تتعهد الزاد و الرُقاد كأن دورها (أن ترطب لهم هجير الغربة و تحدو لهم ركب العودة الحثيث) كما عبر عن ذلك عمها الراحل الشريف زين العابدين ..
الغربة في أوروبا ليست كالإغتراب في المهاجر العربية هي غربة قاسية كقسوة أرضها و طقسها كانت شموم متحملة لكل ذلك بلا كلل أو ملل لا تفارقها الإبتسامة و تلازمها النكتة و الظرافة و سرعة البديهة و التلقائية و المباشرة في الخطاب لا تعرف المداورة و لا المداهنة ..
كانت صفة الأمومة فيها عابرة و شاملة لكل من حولها كانت بصدق أماً لعميها الحسين و زين العابدين و لزوجها صديق و لنا نحن جميعاً بأزواجنا و أولادنا و لكل مرتادي المنافي الأوروبية طلباً للشفاء أو للعلم أو للسياسة فضلاً عن أبناء بطنها .
هذه الأمومة المكنونة في شموم و الطافحة من كل افعالها و تصرفاتها هي عين حقيقة ذاتها و ترجمان لسان حالها هذه الأمومة التي أعنيها صدمت بها شموم الإنجليز حضارياً و في عقر دارهم و معقل حضارتهم فشموم هي صاحبة االدار ذات الباب المفتوح الذي لا يقلق ..
و شموم هي التي كانت تأتي بمن يصادفها من أطفال وصبيان الحى فى ايلنج تطعمهم طعاما لا يرونه فى منازلهم كماً و نوعا. و كانو يستغربون. كنا نسمع بالدعوة لله باللسان و بالفعل. لكن شاهدنا الدعوة بالفعل ..
فلقد اعتنق بول و بعض رفاقه الاسلام حبا فى افعال شموم و ما كانو يرونه و حسن اسلامهم
كانت شموم جبلا من المكارم والقيم النبيلة. كانت ندية اليد و كريمة المسلك. تكفل اليتيم و تطعم الجائع و تكسو العريان. موائدها مشرعة طيلة اليوم و طوال الاسبوع يعانق الغداء فيها العشاء و كثيرا ما تنتقل بها الى بيوت الاخرين فرحة بمولود او كرامة لمريض تعافى او قادم من سفر بعيد. دارها قبلة للاهل و الاحباب و الغرباء و ضيوف الهجوع. كانت مثل شجر التبلدى شامخة بكبرياءها و عفة نفسها. ومن اسرارها العجيبة ما اتصفت به من وفاء. الوفاء عند شموم كان قيمة انسانيه رفيعة تخلقت بها طوال حياتها. لذلك كله اتى خبر رحيلها صادما و مترعاً باحساس الفجيعة و مشبعا بطعم السقام. و لايام ثلاث تقاطر السودانيون بكل سحناتهم السياسية و الاثنيه صوب مدينة اكسفورد لتقديم واجب الاحترام للفقيدة والعزاء لاسرتها. و فى يوم الثلاثاء الحزين احتشد موكبهم مهيباً و حزيناً و باكيا حيث وري جسدها الطاهر بمقابر المسلمين هناك.
لقد كانت شموم أيقونة للشرف الباذخ و المكرمات النديه و المآثر الجليلة ..
رحلت عنا تاركةً فينا فراغاً لا يٰسد و كسراً لا ينجبر و نقصاً لا يعوض لكن العزاء في مصيبتنا فيها أنها نزلت بساحة أكرم الأكرمين و أجود الأجودين و أرحم الراحمين نسأله لها الأعلى من الجنان و الأوسع من الرحمة و الأتم من المغفرة
إنه قادر على ذلك وبه جدير. اسال الله الصبر و حسن العزاء لزوجها و رفيق دربها نيفا و اربعين عاما اخى الشريف صديق و لبنتى لينا و ابناءى ابراهيم و الحسين و عبد الرحيم. و يمتد عزائي لال الشريف حيثما كانو و لاحباءها و صديقاتها و (حبان قساها) و هم كثر. ولا حول ولا قوة الا بالله.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.