حينما قلتُ للرئيس عمر البشير في لقائه معنا ببيت الضيافة قبل أيام، وكتبتُ ذلك قبل ثلاث سنوات في هذه المساحة: (كُن قائداً للتغيير بدلاً من أن تصبح هدفاً له)؛ كان القصد أن يُسهِمَ في ترتيبِ وضعٍ انتقاليٍّ يَسمَح بتداولٍ سلميٍّ للسلطة عبر انتخابات حُرَّة، نزيهة، تُرضي الجميع.
قناعتي لا تزال أن ذلك الخيار يُوفِّر مخرجاً آمناً للبلاد، يَقِيهَا المُواجهات المفتوحة التي لا تَقُود إلا إلى الهاويةِ حيث ذهبت إلى قاعِها كثيرٌ من الدول.
وعلى صفحتي بـ(الفيسبوك)، كتبتُ قبلَ ساعاتٍ من خطاب الرئيس البشير: (قراراتٌ لا تَفُكُّ حالة الاحتقان السياسيّ وتفتح مساراتٍ لدعمٍ اقتصاديٍّ خارجيّ، لن تكونَ ذات معنىً وجدوى).
-2-
فوجِئتُ مثل آخرين أن بعض الجهات المُعارضة أعلَنَت رَفضَها لقرارات الرئيس البشير قبل سَماعها منه، بخِفَّةٍ وعجلةٍ غير مُحتملة.
من تسريبات لقاء مدير جهاز الأمن الفريق أول صلاح قوش برؤساء تحرير الصحف، قبل خطاب الرئيس، بَنَت تلك القوى موقفَها الرافض دون أن تُذَيِّلَه بعنوان الزعيم الأزهري القديم: (سنرفُضُها ولو جاءَت مبرأةً من كلِّ عيب)؛ تلك الجملة التي ظَلَّت، منذ خمسينيات القرن الماضي، تَعتَقِل السياسة السودانية في الدائرة اللعينة!
كان على تلك الجهات المعارضة أن تنتظر صدور البيان، ومن ثمَّ تُخضِعْهُ للدراسة والنقاش، ثمَّ تُعلن موقِفها.
وكان الأمثل أن تَقبَل ما تراه إيجابياً وتتحفَّظ على ما يستحقّ التحفظ، وترفض ما تجده جديراً بالرفض.
-3-
السياسة هي فنّ تحقيق الممكن وتجنيب الشعوب المأساة أو إنهاء استدامَتَها.
وأهمّ مهاراتها إدارة لعبة المساومات، والتعاطي بالأخذ والردّ، وتركُ الأبواب والمسارات مفتوحةً مِن وإلى، قُبول البعض والمطالبة بالبقية.
أما التَمَترُس خلف المواقف النهائية والأبواب المُغلقة، وفرضُ صِيَغٍ وتصوراتٍ للحلول، فهو لا يؤدي إلا إلى المواجهات الكارثية.
لم تُقعِدنا السياسة في كلِّ الحقب عن النهوض واللحاق بالأمم النامية والمتقدِّمة إلا لأنها مرتبطةٌ بالعِنَاد وفتحِ سقفِ المزايدات على المَجهول.
-4-
رغم قناعتي أن بعض نقاط الخطاب جاءت غامضة ومُبهَمة، مع وجودِ اختلافٍ نسبيٍّ بين ما قَالَهُ لنا الفريق قوش بصريحِ العبارة، وما جاء في خطاب الرئيس على وجه التضمين، والارتباك المصاحب لذلك؛ إلا أن المسار العام للقرارات إيجابيٌّ وجريءٌ وشُجاع.
كان الأَوْلَى والأَجدَى، لكسبِ ثقة المعارضين والرأي العام، أن يكون هنالك وضوحٌ ومباشرةٌ في حسم علاقة الرئيس بالحزب، ومستقبل مشاركته في الانتخابات.
الغموض يفتح باب الظنون، وتنبتُ على ارضه الشكوك فتشكل التصورات على أسوأ الاحتمالات ، ويُتِيح فرصاً واسعةً للطعنِ في مصداقية المشروع وتوصيف ما تمَّ على أنه مناورةٌ لكَسْبِ الوقت.
-5-
مع ذلك، يمكن القول إن ما لم توضّحه الأقوال أمس شَرَحَته الأفعالُ اليوم، ما حدث بعد الخطاب أن الرئيس بدأ فعليَّاً، بعد ثلاثين عام، في فكّ ارتباطه العضويّ بحزب المؤتمر الوطني من خلال إصدار تعيينات رئيسية، مثل تعيين رئيس الوزراء الدكتور محمد طاهر إيلا، والولاة العسكريين دون الرجوع للحزب.
الرئيس البشير الآن في مرحلة انتقالٍ داخليّ من عضوية الحزب إلى شرعية الجيش، وهي شرعية انتقالية- ولو لم تُسَمَّ بذلك- ومؤقتة مسقوفة بعقد الانتخابات.
الأمر الثاني رغم أن ما جاء في الخطاب أشار إلى تأجيل التعديلات، إلا أن حديث الفريق صلاح قوش قد فَصَّلَ ما جاء على وجه التعميم؛ حيث قال إن الرئيس لَن يترشح مرةً أخرى لأن الدستور لا يَسمَح له بذلك.
نعم، صَدَر توضيحٌ من إدارة الإعلام بجهاز الأمن ينفي بشكلٍ مُخَفَّف ما قاله قوش، ولكن سرعان ما تَرَاجعت الإدارة عن ذلك التوضيح، واعتمَدَت ما جاء في الصُحف.
-6-
حتى لا يُصبح المشروع المُقدَّم من الرئيس عمر البشير -على أهميته وجراءته وشجاعته- به ثقوب تَسمَح بتسرب الشكوك، لابدَّ من أمرين:
الأول/ التأكيد الصريح على الموقف من علاقة الرئيس بالحزب (جُوَّة ولا برا)؟!!
وعن التعديلات الدستوريَّة، هل ستُلغَى أم ستكون في مربع التجميد مع بقاء احتمال التمديد والتحريك؟!
الثاني/ لابدَّ من إنهاء حالة الإرباك داخل مؤسسات الدولة والحزب في التعامل مع قرارات الرئيس.
-أخيراً-
بدون مثاليَّة، علينا تَجَنُّب سيناريوهات التغيير الثوري الفوري غير مأمون العواقب، والعمل سويَّاً على خلق تسويات ومعالجات سياسية عبر بوابات آمنة ووسائل مُعَقَّمة، بعيداً عن المناورات العبثيَّة والموقف المُتَعَنِّتة المُغلَقة.
ليس في جسدِ الوطن طاقةٌ لمعاركَ جديدة، ولا في رصيدِ غالب السياسيين مُتَّسعٌ من الوقت لإعادة مناوراتٍ قديمة.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.