-1-
هل يختلف معي أحد، أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي، أظهرت أسوأ ما فينا من سلوكيَّات وصفات: احتقار الوقت وثقافة العمل، وحبّ الثرثرة والنميمة، وأكل لحوم الغير، وبث الشائعات، والاحتفاء بتجريم الآخرين ونبش سيرتهم بالباطل.
أصبح من السُّهولة صناعة رأيٍ عامٍّ إسفيريٍّ ضدَّ أيِّ شخص أو جهة، دون أن تخضع المعلومات المُقدَّمة، للفحص والتمحيص.
يكفي أن يدَّعي شخصٌ على آخر، أيَّ ادِّعاء، فيسري ذلك الادِّعاء الكذوب، كالنار في الهشيم.
لا وقت للاستماع للرأي الآخر، ولا تُوجد مساحة للتحقُّق من صحة المعلومات؛ فالاتهامات تمضي بسرعة البرق، والنفي والتصحيح يأتيان بسرعة البط!
-2-
قالها الكاتب الإنجليزي دوغلاس آدمز: (لا شيء ينتقل أسرع من الضوء في هذا العالم، سوى الأخبار السيئة، فتلك لها قوانينها الخاصة).
أرسلْ رسالةً تحوي ما هو مثير؛ شتائم لشخص أو سيرة مزيفة أو شائعات مُحكَمة الصياغة.
أرسلها إلى شخص خارج الحدود أو داخلها، أو ضعها خلسةً على قروب (واتساب)، واكتب عليها (منقول)، وستسري سريعاً على الشبكة العنكبوتية لتصل إليك.
الواتساب أصبح دائرة مُغلقة بإحكام، نقطة النهاية هي ذاتها نقطة البداية، والمُرسل هو ذاته المُستقبِل.
-3-
فضاء الأسافير لا يحتمل الفراغ، فلا بدَّ من حدثٍ ينشغل به رُوَّاد مواقع التواصل الاجتماعي صبحاً وعشية.
لم يَنْتَهِ الحديث عن زواج الوزير ممتاز من المُعتمدة ميادة، حتى بدأت حكاية علاء سنهوري وبطلته المُتوهَّمة سارة رحمة، وما أن خبا ذلك الحدث حتى تم تناول قصة حرس رئيس الوزراء وطبيبة رويال كير.
الآن بدأ فيلمٌ إسفيريٌّ جديدٌ وهو التحريض على فضائية (سودانية 24).
لا أحد يسأل: ماذا فعلت القناة؟ وفي ماذا أجرمت؟!
المُهم إدانتها وإغلاقها، وشنْق من هم على إدارتها، ثم من بعد ذلك يتمُّ البحث عن الحيثيَّات والأسباب!
عود ثقاب واحد يُشعِلُ كُلَّ شيء.
بل الحرائق باتت لا تنتظر الثقاب، نار القلوب وغلُّها وشغب العوام تقوم بالمُهمَّة.
-4-
أمرٌ غريبٌ ومُريب.. هذه الحملة الجائرة التي تستهدف قناة (سودانية 24)، دون تقديم سببٍ واحدٍ منطقيٍّ يدخل العقل السليم، ويستقرُّ في الوجدان النظيف.
لو أن البرنامج تم بثُّه بالقناة، لكان هناك بصيصُ معقولية في الغضب منها.
المُدهش جدَّاً أن برنامج (توك شو) بالقناة العربية الألمانية، لم يُبث في (سودانية 24)، ولم يُروَّج له في القناة ومع ذلك يدعون لإغلاقها!
أئمَّة بعض المساجد رغم المسؤولية الدينية والأخلاقية لكُلِّ ما يقولون، تجدهم يركضون خلف صبية الأسافير؛ فطالب بعضهم بإغلاق القناة باعتبار أن البرنامج قد عُرِضَ على شاشتها!
لا وقت لديهم للتحقُّق من المعلومات.. يُريدون اللَّحاق بالسوق!
-5-
ما قالته واحدة من الجمهور – لا الضيوف – بطريقة مُستفزَّة لمشاعر كثيرين، يُمثِّل قناعةً لكثيراتٍ مثلها.
دعكم من هذه الآراء الاجتماعية السافرة، هنالك حديثٌ مُوثَّقٌ عن تزايد الإلحاد في السودان وسط الشباب، وبروز ظواهر عبدة الشيطان.
ماذا فعل علماء الدين مع هؤلاء غير تحريض السلطات؟!
أليس الواجب الدُّخول في نقاش وجدالٍ مع الفتاة وأمثالها وغيرها، على هدى الدين الحنيف بالتي هي أحسن، لا الهروب من المُواجهات والقذف بالحجارة وتحريش السلطات!
-6-
شعرتُ بحزنٍ وأسفٍ وبعضِ الخجل، حينما قرأت تصريحاتٍ منسوبة لرئيس هيئة علماء السودان، الذي شارك في البرنامج وهو يقول: (تعرَّضت لمكيدة وتم جرِّي إلى فخ)!
أين المكيدة وما هو الفخ؟!!
هل المكيدة أن تُحاور من يحملون آراء مُخالِفة ولو كانت شاذة؟!!
هل الفخ أن تُوفَّر لك فرصةٌ إعلاميةٌ لتردَّ بقُوَّةٍ ومنطقٍ على مُخالفيك وتُقنعهم بعدم صحَّة قناعاتهم؟!
وهل أنت الشخص الذي يسهل استدراجه وجرُّه إلى مكانٍ ما، كان يجب أن يكون فيه؟!!
كان الأوْلى أن تشعر الشابة العشرينية بالرَّهبة والخوف، وهي تطرح قناعاتها أمام عالم يملك الحُجَّة والمنطق وقُوَّة البرهان.
كان المُتوقَّع أن تشعر الشابَّة بأنها جاءت إلى الفخ، لأنها ستُجرَّد من قناعاتها، وستبدو ضعيفة الحُجَّة أمام عالمٍ مُحيطٍ بفنون الجدال وأدبيات الحوار.
ماذا تعني الدعوة إذا لم تكن مُحاورة المخالفين وردّهم إلى جادة الطريق بإقامة الحجة عليهم، وإقناعهم بتعاليم الدين الحنيف.
بعض علماء الدين لا يقومون بواجب الدعوة، ويُريدون للسلطات أن تخوض معاركهم نيابةً عنهم، فيستخدمون خطاباً ابتزازياً لا يليق بالعلماء.
-7-
الأسوأ أن من يتولَّون كبر الحملة كذلك، هم بعض أهل الإعلام، يحملون قميص عثمان في وجه القناة، ويبكون على الدين والأخلاق بدمع كذب وبافتراءات مفضوحة.
بعض هؤلاء سُمعتهم ليست فوق الشبهات، ومع ذلك يلبسون ثياب الواعظين، ولكننا نراهم عراة، يمتطون صهوات منابر الثلج.
-أخيراً-
إنها انتهازية استغلال الفرص لتصفية الحسابات وتسديد أسهم الكيد.. لا استغلال الفرص، بل صناعتها من العدم والوهم، وبيعها إلكترونياً لعامة الناس!!!
التعليقات مغلقة.