-1-
لم يتوقَّف هاتفي من تلقِّي الاتصالات منذ صباح أمس. أصدقاء ومعارف وقُرَّاء يتساءلون عن إعلانَيْن نُشِرَا بالصفحة الأخيرة.
إعلانٌ في نصف صفحة، يحوي شُكراً لوزير الكهرباء معتز موسى، ومُعاونيه بالوزارة، لالتزامهم بالوعد الذي قطعوه على أنفسهم، باستقرار التَّيار الكهربائي، خلال شهر رمضان، وعدم وجود برمجة قطوعات، إلا التي تحدث بسبب أعطالٍ فنية طارئة.
والنصف الآخر، شكرٌ مُوجَّه للشُّرطة، ومُخصَّصٌ لشرطة المرور، لدورها في فكِّ الاختناقات وضبط السير بالعاصمة، وتنفيذ نظام التتبع الآلي في طرق المرور السريع.
مُضافٌ إلى ذلك، شكرٌ للمباحث وشرطة النجدة، لانتشارهما الكبير، في الأسواق والمساجد خلال الشهر الكريم، وإشادة بمجمعات الشرطة الخدمية بالعاصمة المثلثة.
-2-
صاحبُ الشُّكر الذي دفع من ماله الكثير، لارتفاع ثمن الإعلان بالصفحة الأخيرة، لم يُرِدْ ذكر اسمه، واكتفى في الإعلانَيْن بتوقيع:
(مُواطنٌ سوداني تأصيلاً لثقافة شكراً).
حينما تكاثرت الاتصالات، المُشيدة بالمُبادرة والمُنتقدة لها والمُرتابة فيها، اتَّصلتُ بقسم الإعلان بالصحيفة، مُستفسراً عن هوية صاحب الإعلان المنشور بالصفحة الأخيرة.
أخبرني أحد الزملاء بالقسم، أنه رجلٌ مُقتدرٌ مالياً، له تعاملٌ مع القسم وسبق أن فعل ذات الشيء قبل سنوات، حينما وجَّهَ شكراً مدفوع الثمن لجهة عامة، وفي كُلِّ مرَّةٍ يُصرُّ على عدم إيراد اسمه، حتى ينفي عن نفسه صفة التملُّق والنفاق ابتغاء المصلحة الخاصة.
-3-
قلتُ للزميل: للأسف مثل هذه المُبادرات عادةً ما تقع في دائرة الاشتباه وسوء الظن واتِّهام النوايا.
لو أن صاحب الشكر أراد انتقاد الجهتين الشرطة والكهرباء، لما وجد في إيراد اسمه حرجاً، ورُبَّما طالب بتكبير (البُونط) ونشر صورة له، ولوجد ذلك استحساناً من الكثيرين، ولوُصِفَ بالشجاعة والجسارة.
أما إذا أورد اسمه في إعلانات الشُّكر، لاعتُبِرَ مُنافقاً ومُتملِّقاً ومُطبِّلاتيَّاً وصاحبَ مصلحة و(كسَّار تلج).
-4-
كثيرون يظنُّون أن النفاق هو تملُّق أصحاب المال والسلطان بمعسول القول وكثير الثناء، ودلق ماء الكرامة والكبرياء تحت أقدامهم.
النفاق الأكبر، أن تفعل عكس ذلك تماماً، بأن تشتم وتنتقد وتُسيء، وتُضخِّم السلبيات وتغضَّ الطَّرْف عن الإيجابيات، لا لشيء سوى ليقال إنك شجاعٌ لا تخشى في الحقِّ لومة لائم، هذا هو مقصدك ومبتغاك.. وعلى بابه ربحٌ وفيرٌ وثناءٌ عاطر.
بعض النفاق، أن تصمت عن قول ما تراه حقاً، خوفاً من أن يُساء فهمك أو يُشتبه في نواياك، فتختار السلامة على نظرية حفظ اللسان وصون الحصان.
-4-
بعض الكُتَّاب من سماسرة بيع الأقلام والأحبار، والمُتاجرة بتزيين واجهات بعض المسؤولين الكالحة، بمقابل وثمن، هم الذين تسبَّبوا في خلق حالة الريبة والشَّك في ذكر حسنات أصحاب الأقلام الخضراء.
ليس من العدل والإنصاف، كتمُ الشهادة والصمت عن قول الحق خوفاً من سوء الفهم.
الوزير معتز موسى ومعاونوه يستحقُّون الشكر والثناء، فرغم الضائقة الاقتصادية الخانقة وشح الوقود أنجزوا استقراراً كهربائياً أفضل من الأعوام السابقة، ومعتز في ذاته وزير مُشرِّفٌ قولاً وعملاً.
كذلك الشرطة السودانية ظلَّت تُعطي وتُقدِّم الكثير من العطاء في ظروف بالغة التعقيد، ومُجمَّعاتها الخدمية تُعتبر الأفضل والأجود، مُقارنةً بغالب المرافق الحكومية.
صحيحٌ أن ما يفعلونه، هو واجبهم في الأساس، ولكن بنظرة شاملة لواقع الحال نجد النماذج المُشرقة قليلة، تلك التي تُؤدِّي عملها بحيوية وتجويد وتفي بوعدها للمواطنين، ولا تهرب بالأعذار والتبريرات ولا تختبئ في الصمت.
الخدمة المدنية في أسوأ أحوالها: تردٍّ في غالب الخدمات، وتراخٍ عن تأدية الواجبات، ولا يُقابَلُ ذلك بالمُحاسبة والعقاب.
-5-
ثقافةٌ سالبةٌ تلك التي تشتبه في الثناء والمدح، وتحتفي بالنَّقد والشتائم.
من الإنصاف والعدل، أن يجد من أحسن الشُّكر والتقدير، ومن أساء وأخطأ الجزاء والعقاب.
حينما يجد المُحسن في عمله عدم التقدير، ربما أسهم ذلك في خفْضِ حماسه، وارتخاء همَّته، ليُصبح هو والمُهمَل المُتسيِّب في ذات الدرجة من اللامبالاة.
-أخيراً-
نعم، لا تكفُّوا عن نقد المُقصِّرين، لكن لا تبخسوا المُجوِّدين أعمالهم.
التعليقات مغلقة.