باج نيوز
موقع إخباري - أخبار اراء تحليلات تحقيقات بكل شفافية
Baraka Ins 1135*120

محمد عثمان إبراهيم: كي يحبني أصدقائي أكثر

675

 

 

لم تأت أبداً على خاطرة فكرة أن أكون كاتباً صحفياً او معلقاً سياسياً في المستقبل! كطفل كنت أفكر في خيارات كثيرة للتحقق حينما أغدو كبيراً وبالرغم من أنني تظاهرت لفترة محدودة بأنني أرغب في أن أكون طبيباً إلا أنني كنت بيني وبين نفسي أعلم انني أزعم ذلك ليحبني أبواي أكثر. كان ذلك عملاً مشروعاً مني ففي جميع الأحوال يحتاج المرء الى الحب، وقد كان غابو العظيم، غابرييل غارثيا ماركيز، صريحاً ومدهشاً حين قال: إنني أكتب ليحبني أصدقائي أكثر! غابو نفسه لم يخف أمنيته السرية المناوبة حين قال إنه لو لم يكن روائياً لتمنى أن يكون عازفاً للبيانو في إحدى الحانات لأن هذا يجعله يساهم في جعل العشاق أكثر قرباً من بعضهم في لحظاتهم الحميمة. أنا أيضاً كانت لدي أمنيات سرية مغايرة بيد أنه لم يكن من بينها عازف البيانو في الحانة ولكنني سأكشف بعضاً من تلك الأمنيات في فضاء جديد إن شاء الله.

تجاذبتني عدة أمنيات في الطفولة من بينها ضابط جيش وقد حرمني أن فرصتي في تحقيق أمنيتي قد جاءت في أول عهد التمكين في زمن الإنقاذ فلم استسلم وحققت ذات الأمنية بشروط أيسر عبر بوابة أخرى ثم سئمت الأمر كله. وكانت ضمن الأمنيات المذيع وقد حققتها بتوفيق كبير أيضاً صبرت خلاله على مديرة متواضعة القدرات، محدودة الأمكانيات، غليظة الطباع قضت حوالي الثلاثين عاماً في ذات الوظيفة قبلي ولم تكتسب سوى خبرة عام واحد استخدمتها كقالب ثم كررتها ثلاثين مرة. بعد عامين او ثلاثة سئمت المحطة ثم سئمت الوظيفة نفسها وقررت في السر أن أكون روائياً. نظرت حولي فوجدت أن الكل يكتب الرواية فما عاد الأمر يغري أو يجدي. من قبل جربت كتابة الشعر ونشرت بعض القصائد هنا وهناك ثم فعلت بالمخطوطات الصغيرة ما فعل التوحيدي بمخطوطاته، دون أدنى شعور بالأسى.

كتبت مقالتي الأولى بصحيفة (الأحداث) ثم وجدت الطريق سالكاً والتشجيع مهيباً والمحبة دانية. في طريق الكتابة مررت ب(الرأي العام) و(الخرطوم) و(السوداني) التي بقيت فيها كثيراً بما يكفي. طوال العقد الذي وضعت فيه اسمي خلف عنوان كاتب صحفي كنت وفياً لجوهر الكتابة، ومراوغاً في الإلتزام براتبيتها، أو قل رتابتها. ظللت على يقين بأن الكتابة الصحفية واحدة من أوجه المساهمة الرفيعة في بناء الوطن وفي الخير العام وفي صلاح حال الناس. من جانبها فإن الكتابة تعطي وقد أعطتني أصدقاء عظاماً ما كان بوسع أي مجال آخر أن يوفره لي. سعدت بعدد هائل من القراء من حيث النوع لكنني لم أكن أبداً ـ عن حسن قصد صميم ـ كاتباً جماهيرياً. أنا من جماعة تناهض الجماهيرية في الفعل الثقافي والأدبي وأعتقد، مسلحاً بكم هائل من الحجج، أن الكتابة والعمل الثقافي والأدبي والفكري أنشطة حامضة بالنسبة لذائقة الجماهير وينبغي أن تبقى العلاقة بين الطرفين على حال من التجاهل المتبادل والمثمر. الكتابة والفكر والثقافة لا تستهدف التعاطي مع الجماهير بشكل مباشر، بل من الأفضل للطرفين أن تمر المنتجات الثقافية والفكرية عبر وسيط حاذق يقدمها للجماهير. الكتابة أفضل أن تنتج وتستهلك في مناخ محدود ومعزول ونخبوي بمعنى انتقائي ومغلق الأبواب.

طوال اجتهادي في الكتابة حرصت على أن أكون كما أشاء مخلصاً في ابداء رأيي مجتهداً في بذل الوقت للحصول على أكبر معرفة حول الموضوع، وابتعدت تماماً عما غم علي من الأمور، أو استعصى على من المعارف.

لا سبيل الى التخلي عن ممارسة النشاط المنوط به الخير العام، لكنني أقرر الآن التوقف عن الكتابة الصحفية، وبالتأكيد سيكون لي بديلي. لأول مرة خلال حوالي العشر سنوات أشعر أن المناخ العام لا يصلح للكتابة، وإن الساحة الصحفية أقل قدرة على احتضان الكتابة واحتمالها. الكتابة لا تصلح الآن تماماً ومن يكتب الآن في الصحف بلا معوقات أحد إثنين: إما كاتب غير مخلص للكتابة، أو غير مخلص لخدمة فكرة الخير العام.

المأزق الوحيد الذي سيواجهني هو كيف يمكنني أن أحتفظ بالصداقات العظيمة التي حصلت عليها في فضاء الكتابة؟ أيها الأعزاء سأحرص على أن أبذل مافي وسعي لكي يحبني أصدقائي أكثر فلنتوسم دائماً الخير

التعليقات مغلقة.

error: