أليست مفخرة ومحمدة أن تعود إلى الوطن بعد إنهاء مهمة كنت تمثله فيها، أليست نعمة عظمى هذا الزمان أن يكون لديك وطن تعود إليه إذا كنت حيثما تقلب وجهك في شاشات الفضائيات تشاهد شعوبا كانت عزيزة أذلها انعدام الأمن و”ما يسمى بتغيير النظام”، وتشاهد حرائر في عمر الزهور وشيوخا مسنين يحملون “البقج” على ظهورهم ويحلمون بخيمة وبطاقة لاجيء وجرعة دواء في أي دولة بعد أن باتت أوطانهم خرائب ينعق فيها البوم. أليست العودة إلى وطن آمن بموجب قرار رشيد من حكومة مستقرة ترتب أوضاعها وتدرس أولوياتها الإقتصادية، أمر يستدعي أن تتوضأ وتصلي ركعتين شكرا لله؟!
لقد كان فخرا وشرفا لنا أن نمثل السودان شعبا وحكومة ورئيسا، فالشعب يستحق لأنه شعب الكرم والدين وصلة الأرحام وسيتجاوز هذه الظروف الاقتصادية بإذن الله، والحكومة تستحق لأنها هي التي يعمل جنودها وموظفوها لأمن أهلنا وأسرنا وأرضنا في حضورنا وغيابنا ويفقدون أرواحهم ويضحون بدمائهم في أطراف المدن والأصقاع النائية لنحيا ويذهب أطفالنا للمدارس.
والرئيس يستحق لأننا نؤمن إيمانا قاطعا أنه بطل عزيز قاد البلاد وناهض موجة الإستعمار الجديد في العالم الثالث وأفريقيا وليس في السودان وحسب، والتاريخ يسجل هذا، ونفخر بأن التاريخ سجل لنا الشرف بتمثيله دبلوماسيا بعد أن مثلناه بالقضية والقلم في المحافل الافريقية.
بقينا في الملحقية الإعلامية بواشنطون الفترة الماضية بتعيين رسمي وثقة من الدولة نحمد الله عليها و بأموال الشعب التي اقتطعها لنا من لحمه الحي و تدربنا وعرفنا وفهمنا، يجب أن نتأدب مع الدولة التي وثقت فينا ونشكرها علنا ويجب أن نتأدب مع الشعب الذي أنفق علينا وأدبنا ونشكره علنا. يجب أن يكون كل عائد في مقدمة الداعمين والمؤيدين لهذا القرار السليم الحكيم.
جاءت قرارات السيد الرئيس، ولم تتحرك منا ولا شعرة إلا فرحا بالانتماء للسودان وقناعة بالقرارات وضرورتها. إنما هو تكليف أسند إلينا ثم أعفينا منه. لقد كان يضايقني فيه من الأساس فهم بعضهم الخاطيء عندما يعتقد أن الملحقيات الإعلامية في السفارات إما مكافأة أو استمالة، ينبغي أن يصحح هذا المفهوم ويقتلع من جذوره، لو كانت مكافئة فإننا لا نستحقها ولا أحد أصلا يستحق مكافأة لخدمة وطنه والدفاع عنه، لا احد من حقه المزايدة والمكالبة في زمان الشدة ومباصرة الموارد، هي مهمة وتكليف وطني لو كانت النية هكذا فإن الله يحسن العمل.
وعلى ذكر الاقتصاد وتصريف شؤون البلاد، نثق في أن الأزمة ستزول ولدينا حجج كثيرة ومنها ما قلناه لبعض من يترصد السودان بالادعاءات أنه دولة فاشلة ومنهارة اقتصاديا ويدعم ذلك بارقام وبيانات مصنوعة، كيف يستقيم هذا الإدعاء العريض مع ارقام وبيانات أخرى مناهضة عن قفزة السودان إلى موقع “ثاني منتج للذهب” في أفريقيا مثلا؟!
الجواب في احتمالين: الأول هو إما أن الله موجود (عبارة نحتاج إليها هنا لعدم معرفة موقف محدثنا من هذه النقطة) والشعب السوداني لديه كرامات وأن الله فجر له الأرض من تحته ذهبا بعد حرمانه من النفط والتمادي في حصاره واقتطاع ثروته مع سبق الإصرار والترصد، والثاني هو أن هنالك حكومة قادت الأمور بحنكة ووضعت سياسات تشجع الإنتاج الأهلي لفترة ثم عززته بالإنتاج الصناعي و”باصرت” الأمور ورواغت ألغام الفشل والقرارات المعادية ولا تزال تقاوم نسأل الله لها النصرة والتوفيق.
بالنسبة لي كان التحدي في واشنطون هو الثبات في بلاد تعصف بالقلوب وتعبث بالنوايا والأفكار وتميعها وتلينها، بلاد تثير الطمع لدى السياسيين في “المستقبل السياسي” وتفاقم “مرض حامد كرزاي” المصطلح الذي صككته وكتبت عنه في العام 2004 مقالا قرظه وأعجب به صديقنا علي يس وياليتني أعثر على مقاله فأنشره مرة أخرى لأنه أجمل مما كتبت. والمرض يصيب السياسيين الذين ينشدون دعما أمريكيا للوصول و الترقي داخل بلدانهم.
من مزايا العمل في أمريكا أنني ما ازددت فيها إلا بصيرة، وما ازددت إلا حذقا في معرفة الغربيين أنهم بشر مثل سائر البشر بينهم خلاف وشقاق وممرات آمنة لكل صاحب قضية خلال هذه الخلافات والتصدعات، وأن نظامهم الداخلي السياسي – الاقتصادي وإن كان فيه مقدار من متانة التصميم وتراكم الخبرات والتجارب الانسانية إلا أنه في النهاية نظام من وضع البشر وفيه عيوب وثغرات لا يعرفها إلا من تنقشع عنه غشاوة الإنبهار والوله الأمريكي. هذا الوله لا ينحصر ضرره في تخريب الأخلاق و”الذمة الوطنية” إنما يغيب العقل والفكر فلا يرى من الأساس أي فرصة لنصرة الوطن وتعزيز موقفه.
ومن حسنات امريكا – شيء من المجاملة واللياقة اللفظية لا تضر- أنني وجدت إجابات كثيرة على أسئلة كثيرة كانت تحوم في ذهني عن صراع الحضارات وتشكل جنين المؤامرة في أحشاء المؤسسات والكيانات في بلد العم سام .. نطفة فعلقة فمضغة ثم عظاما مكسوة ببهرج الإعلام والتبريرات مع محاججات وادعاءات حقوق الإنسان. نرى هذا التخلق وكاننا ننظر إليه في شاشة “جهاز الموجات” لا ننخدع أبدا بالمخطط بعد ولادته في شكل الطفل البريء.
في السودان … المطلوب من السيد الرئيس المزيد من القرارات الاسعافية الإصلاحية، ومن الحزب والدولة ومنسوبيها وحلفائها اسناد القرارات دون الالتفات لأي مصلحة شخصية والمطلوب من الجماهير المزيد من الالتفاف حول القيادة.
شكرا لوزارة الإعلام التي اختارتنا وشكرا للخارجية التي أشرفت علينا وعلمتنا، الشكر لصديقي وأخي السفير معاوية عثمان خالد على تعاونه وإرشاده لي طيلة فترة العمل، الشكر للبعثة الطيبة دبلوماسيين و موظفين و عمال .. الشكر لاولاد البلد الاعزاء في الجاليات السودانية في المهجر.
………………
التعليقات مغلقة.