خارج الدوام
حزب المؤتمر الوطني المعارض
mohamedibra@gmail.com
الشعب السوداني مدين عن أطول الحكومات استقراراً في تأريخ بلاده، وعن أكبر الإنجازات في مجالات التنمية والبناء والإعمار وتحقيق السلام، وعن أكبر توسع تشهده طبقته الوسطى المنوط بها الحفاظ على المكاسب والتنبيه للمخاطر وقيادة المجتمع نحو مصالحه، لواحد من أهم الإنشقاقات الحزبية والسياسية وهو الإنشقاق الذي عرف في أدبيات السياسة السودانية بالمفاصلة، أو قرارات الرابع من رمضان، أو الصراع بين القصر والمنشية، أو صراع الترابي ـ البشير، أو إنشقاق الوطني والشعبي أو غير ذلك من الأسماء الدالة على ذات المعنى بحسب المتحدث حركياً إسلاموياً محزوناً كان، أو واحداً من بقية خلق الله الفرحين بما آل اليه حال طغمة العشرية الأولى من حكم انقلاب الجبهة الإسلامية القومية. توحي كثرة الأسماء التي منحت لتلك الإنعطافة في مسار الحكم والسياسة في السودان الى أهميتها البالغة وأثرها الكبير، وقد كتب مجد الدين بن يعقوب الفيروزأبادي (رضي الله عنه) في كتابه العظيم (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) “اعلم أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، أو كماله في أمر من الأمور. اما ترى أن كثرة أسماء الأسد دلت على كمال قوته…”.
في روسيا القيصرية قاد انشقاق المناشفة والبلاشفة في حزب العمل الإشتراكي الديمقراطي الى تغيير تأريخي في حياة مئات الملايين من البشر حول العالم، وحقق إنتصارات كبرى للنوع البشري في العلم والتقنية وأساليب تطويع هذا الكوكب للحياة، وذلك بإنتصار الثورة وتكون الإتحاد السوفيتي ثم انهياره بعد أقل من قرن واحد تاركاً إرثاً عصياً على التجاهل الى الأبد.
ليست الإنشقاقات شراً على الإطلاق بل هي قابلة لأن تكون خيراً وعكسه وقد عثرت على عدد من عناوين الكتابات التي تناولت بعض الإنشقاقات التي مرت بها بعض القوى والأحزاب السياسية السودانية في العصر الحديث ابتداء من فترة نشوء الحركة الوطنية ومؤتمر الخريجين، وللغرابة فقد وجدت أن أغلب تلك الإنشقاقات كانت لها آثار إيجابية كبيرة على حياتنا السياسية وحياتنا العامة كلها بعكس عمليات الإندماج التي كانت لها آثار كارثية على حياة شعبنا! وحتى لا يفلت خيط هذا المقال من بين أيدينا سأبارح هذه النقطة بالإشارة الى عدد من (الإندماجات) التي أضرت ضرراً كبيراً بحياة الناس في هذا البلد الموفور الخيرات.
١ـ اندماج حزبي الشعب الديمقراطي والوطني الإتحادي في الحزب الإتحادي الديمقراطي الحالي (الأصل) في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي في ملابسات عبثية وانتهازية تهدف لتكبير الكتلة التصويتية لتحالف الأفندية والقوى التقليدية بإنتظار أن تسفر عن أغلبية برلمانية غير متجانسة تتولى الحكم دون أن تكون لديها القدرة او الكفاءة أو البرامج المناسبة لتلك المهمة. لقد أعاق ذلك الإندماج القسري (أي الذي لم يأت كنتاج طبيعي لتنظير وفكرة) الحزبين عن تطوير نفسيهما وعن ترقية الحياة العامة في البلاد وظلا كتلتين متنافرتين في ثوب واحد ظل يضيق بهما منذ يوم الميلاد الأول. نتج عن ذلك الإندماج ما يزيد عن العشرة انشقاقات الضعيفة والمتحمسة دون أن يجرؤ أي منشق على الحديث الصريح بأن الإندماج كان خطأ في الأصل وإن الوقت قد مضى كثيراً دون أن يتم تصحيح ذلك الخطأ.
٢ـ اندماج الحركة الشعبية (التيار الرئيسي بقيادة د. جون قرنق) وتيار الناصر بقيادة د. رياك مشاروهو الإندماج الذي أنتج ماساة كبرى في شمال السودان وجنوبه بإطالة أمد الحرب ومنحها الوقود البشري المحلي والدبلوماسي الدولي وأهدر مليارات الدولارات على المواطنين في الدولتين اللاحقتين واللتان كانتا نتاجاً لذلك الإندماج المبتسر والذي ولد في عالم التنفيذ قبل اكتمال نموه في رحم النظرية. عاشت الحركتان قليلاً بذات التنافر المتوقع في ثوب الحزب الواحد ثم عاد الطرفان أكثر خصومة وتضاداً وكراهية واحتراباً. إن سوء الأحوال في جمهورية جنوب السودان يضر بمصالح الأهل في البلدين الجارين بشكل هائل لم تتوفر حتى الآن إرادة مخلصة في البلدين لتواجه حقيقته وتتفادى أثره السالب.
٣ـ إندماج الحركات السياسية الضعيفة التكوين والقيادات والسند الشعبي في شرق السودان (مؤتمر البجا أسمرا / مؤتمر البجا الخرطوم/ الأسود الحرة) في ما عرف بجبهة الشرق وقد كان لتكوين هذه الجبهة ومشاركة بعض قادتها في السلطة المركزية والسلطات الأدنى ضرر كبير على حياة المواطنين في شرق السودان بما لا يقاس بالضرر الذي نشأت من أجل مواجهته. لقد أفرزت جبهة الشرق المشار اليها ثلة كبيرة من الحركيين الضعاف تعليماً، وخبرة، واستقامة، وسنداً شعبياً وهي الآن تنوب عن التمثيل الحقيقي لأهالي شرق السودان في السلطة دون أن تبذل أدنى جهد لدفع استحقاقات ذلك التمثيل وتلك المشاركة الهزلية.
٤ـ الإندماجات السياسية الفضفاضة مثل التجمع الوطني الديمقراطي (أسمرا)، تحالف الفجر الجديد (كاودا)، وتحالف نداء السودان (باريس)، وتحالف أحزاب المستقبل (فرح العقار وغازي صلاح الدين وآخرون)، والجبهة الوطنية العريضة وغيرها. كل تلك، ما انفكت، تحالفات (برجوازية صغيرة) انتهازية مغرمة بالنتائج التي تتصورها دون أن تبذل ما يكفي من العطاء لوضع الخطط للوصول الى تلك النتائج.
حكايتان عن ضيق الجسدين المتنافرين داخل جلباب الإندماج التعسفي:
إبان عهد الحكومة البرلمانية الأخيرة بقيادة السيد الصادق المهدي، ضاق رئيس الوزراء بوزيره من الحزب الحليف الراحل الدكتور محمد يوسف أبوحريرة وطلب من قيادة الحزب الإتحادي الديمقراطي الذي ينتمي اليه الأخير أن تقوم طريقته، وأن تتولى ضبطه بحيث يلتزم بتراتبية العمل داخل الحكومة وبتعليمات رئيس الحكومة، لكن هذه الطلبات لم تؤت الثمرة المطلوبة. قرر رئيس الوزراء حل الوزراء والتخلص من الوزير (رحمه الله رحمة واسعة) وقد تحقق ذلك بيسر كبير. تقول الرواية التي سمعتها شفاهة وتعذر على إعادة توثيقها لغرض هذا المقال إن جماعة من الحزب الإتحادي الذي ينتمي اليه أبوحريرة كانت تعلم بخلافاته مع رئيس الوزراء وضيق المهدي به فذهبت اليه ونصحته بإقالته ووضع الإتحادي أمام الأمر الواقع الجديد وتعهدوا بأنهم سيبعدون الرجل من التشكيل الوزاري الجديد وقد كان. وسواء صحت تلك الرواية أم لم تصح فإن الثابت أن تجار الحزب الإتحادي وأصحاب النفوذ فيه كانوا قد ضاقوا بسياسات أبي حريرة التجارية أكثر من ضيق زعيم الأنصار به.
القصة الثانية حدثت حين اعتقلت السلطات الأمنية قادة التجمع الوطني الديمقراطي بالخرطوم لأشهر طالت بسبب اجتماعهم بمسئولين في السفارة الأمريكية وما روي عن تبادلهم الآراء من اجل الإطاحة بالنظام القائم والحلول مكانه. ظل التيار الرئيسي للتجمع في القاهرة وأسمرا يطالب بصوت خافت بإطلاق سراح قادة فرعه في الداخل (كان الوضع مقلوباً بالطبع فالأصل في الخارج والفرع داخل الوطن) وفي إحدى المناسبات سألت أحد الحركيين المهمين عن لماذا لا يتولى التجمع حملة من أجل الضغط على الحكومة لإطلاق سراحهم ففاجأني بالقول إن هؤلاء يستحقون الإعتقال الذي يعايشونه وأوضح لي أنهم طلبوا الى الدبلوماسيين الأمريكيين توجيه دعمهم المادي والسياسي لهم في (تجمع الداخل) وتجاهل (تجمع الخارج) مشيرين الى أنهم قادرون على إسقاط النظام لوحدهم في أجل زمني محدد. فتأمل كيف يكيد الجسدان المندمجان لبعضهما البعض في المثلين أعلاه.
*
ظل حزب المؤتمر الوطني الحاكم، منذ بدايات سلطة إنقلاب الإنقاذ عام ١٩٨٩م، يعيش حالة من التنافر المتصل داخل ما سمى أولاً بالمؤتمر الوطني الذي زُعِم أنه (النظام السياسي) الحاكم وليس (التنظيم) وذلك في حقبة الولع بالمصطلحات الجديدة. كان هناك الإسلاميون (الإخوان) والحركيون الموالون للعسكريين وقد تصارع هؤلاء بشكل علني واختصموا بشكل (فاجر) في المركز والولايات على كل شيء من المؤسسات الحكومية وحتى مجالس الجمعيات الخيرية وكانت الدولة كلها تعاني من حالد الشد والجذب ذاك. كانت القرارات الصادرة من الجهات الأعلى تتكسر دون أدنى احترام لقواعد النظام البيروقراطي حتى بلغ الأمر بضابط نظامي أن اعتقل زائراً خارجاً من مسكن رئيس الجمهورية.
نواصل
التعليقات مغلقة.