باج نيوز
موقع إخباري - أخبار اراء تحليلات تحقيقات بكل شفافية
Baraka Ins 1135*120

خالد التيجاني النور.. تأثير الترابي: لم يحن بعد وقت الرثاء

725
ربما لو تسنّى للشيخ الحسن الترابي أن يقول شيئاً من البرزخ بعد رحيله المفاجئ لقال لمن تقاطروا خفافاً وثقالاً لمأتمه، إنه لم يحن الوقت بعد للعزاء ولا الرثاء، وإنه سيكون هناك متسع لذلك كله إن سلم البلد من الوقوع في براثن الفوضى مما ظل يكرّس سنواته الأخيرة للتحذير منه، وأن عليكم أن تسارعوا لتدارك السودان قبل أن تتحق أسوأ مخاوفه. فلئن غادر الحياة خلسة قبل أن يطمئن على مصير الوطن من أن تنتاشه غاشيات المزيد من الفوضى والاحتراب، فلا أقل من أن يكون موته حياة لمن بعده “أن أنفذوا وصيتي”، وعضوا على بلدكم بالنواجذ قبل أن تتخطفها النوازل التي عصفت ببلدان طالما كانت آمنة مستقرة، ولكن شًح النفس وطغيان السلطة أسلمها إلى حال بئيس لا يحتاج للوصف والناس يرون مآلاته رأي العين.
لو تمعّن أنصار الشيخ الترابي عبرة سيرته لا سيما في خواتيم حياته لأدركوا أن الغفلة عما حذّر منه هو آخر ما ينتظره، فهو ليس في حاجة لترديد مناقبه كأن البعض كان في انتظار وفاته ليكتشفها، أو ليذكّر بها الآخرون، لم يكن الترابي وهو يهيئ نفسه لمغادرة الحياة الدنيا متأسياً “وعجلت إليك ربي لترضى”، يخشى شيئاً سوى أن يذهب إلى قضاء الله، وكل المخاطر التي تحيط بالسودان باقية بلا أفق مفتوح للحلول السلمية.
وما عرف الناس شخصاً مثله ظل يُلّح في خطابه العام طوال السنوات الثلاث الاخيرة من عمره على التذكير دائماً في كل مرة يقف فيها متحدثاً بالسباق الذي تعين عليه أن يكدح فيه كدحاً، بين أجل يدنو وبين جهود خُرافية ظل يُصر على بذلها لإنجاز تسوية سياسية تقود السودان المضطرب والموعود بأكثر من ذلك إلى بر الأمان.
ولعل صوته بحّ، ومع ذلك ما فترت عزيمته مع كل الخذلان الذي وجده من أمل في عونهم، وقد ظل يذكّر المرة تلو الأخرى حتى قبل أقل من أربع وعشرين ساعة من انتقاله إلى الرفيق الأعلى بأنه يريد أن يطمئن على السودان قبل رحيله، على الرغم من كل العناد الذي وجده من الأقربين وعدم التصديق من الأبعدين، بين مستغرب لهذا الإصرار على حوار يبدو مستحيلاً يفضي إلى الانتقال عبر تسوية تاريخية، وبين مشكك في مقصده ظاناً أنها مجرد مناورة لإعادة بسط سيطرته على الأمور. وبين محتار في كل ذلك لا يجد تفسيراً منطقياً لإلحاحه على شئ لا يجدون من الواقع ما يصّدق رهاناته.
لم يستطع في حياته، مع كل هذا الإيمان والإصرار، ومع كل ما عُرف عنه من حنكة وقوة شكيمة أن يحقق أمنيته في رؤية حوار وطني منتجاً يقود لتغيير حقيقي، وبدا وكأنه لم يبق أمامه إلا أن يسلم الروح إلى بارئها لعل وعسى أن يكون في هذا الرحيل المفاجئ والصادم على كثرة تذكيره بهذه اللحظة، ما يقنع الجميع في الأطراف كافة أنه لم يكن يناور، وأنه كان يقصد ما يقول، وأنه كان يبحث فعلاً عن مخرج آمن يجبّ كل ما آل إليه حال البلاد والعباد، وهو مدرك لقسطه من المسؤولية في ذلك، ساعياً إن أفلح جهده أن يكون تكفيراً لأخطاء وخطايا الماضي، وفرصة لإنقاذ السودان من مستقبل مجهول وسانحة لفتح صفحة جديدة لحياة أفضل للسودانيين سداتها الحرية.
في رمضان الماضي دعا الدكتور بخاري عبد الله الجعلي الشيخ الراحل الترابي إلى إفطار في منزله أمّه ثلة من الشخصيات العامة من مختلف ألوان الطيف السياسي بغرض التداول في الشأن الوطني العام، وتحدث الترابي مطوّلاً مطوّفاً حول معاني وقضايا كثيرة، وشخّص المأزق الوطني الراهن وعواقبه، ودافع باستماتة عن الحوار بحسبانه السبيل الوحيد لمخرج آمن لمشكلة البلاد، ولم يخلو حديثه من رنّة عاطفية طاغية ما عهدها الناس فيه وهو الخطيب المفوه صاحب الحجة والمنطق، اتفق الحاضرون معه على تشخصيه لواقع الحال، ولكن لم يكد أحد يوافقه في رهانه على الحوار وهم يرون مسيرته تتلكأ وتتعرقل على مدى عام ونصف العام، ولا يكادون يلمسون جدية فيه حتى يكون المخرج وهوعلى هذه الحال التي يجري بها وقد انفض عنه شخصيات من ذات الوزن بعد اختبارهم لصدقيته.
قلتُ للشيخ في ذلك اللقاء إن كل ما يقوله حسن وعين الصواب، غير أن النيّة الحسنة وحدها لا تكفي لإنجاز مهمة الحوار وإنقاذ البلاد ما لم يكن هناك تجاوب مع هذه الجهود بقدرها، واستعداد لتقديم تنازلات حقيقية من الطرف الممسك بالسلطة، وأن اليد الواحدة لا تصفق. رد الدكتور الترابي على تعليقي بحدّة قائلاً: “عندك أي حل تاني، نقاتلهم يعني”!. في الواقع كان ردوده على كل التحفظات التي أثيرت في تلك الجلسة في شأن الحوار المتعثر تتسم بعدم الاستعداد المفرط لقبول أي وجهة نظر أخرى، كان إيماناً ك”إيمان العجائز” كما يُقال بخيار وحيد لا ثاني له، الحوار ثم الحوار مهما كانت الطرق أمامه مسدودة. ومثل هذا السيناريو تكرّر في جلسات أخرى مع شخصيات مرموقة، وكان رد الفعل الوحيد عند الجميع هي الحيرة، والتساؤل عما ماذا يرى الشيخ من معطيات غير الذي يرونه، وعلى ماذا يراهن؟.
أيقنت يومها أنه مفارق، وقد لفتت نظري بشدة، النبرة العاطفية الشديدة غير المعهودة التي طغت على حديثه ومنطقه، وإلحاحه على فكرة أن يرى توافقاً واتفاقاً بين السودانيين في حياته قبل أن تدركه المنيّة، وقلت لمن سألني عن إنطباعي عن ذلك النقاش أن الشيخ الترابي بدا لي كمن يقدم أوراق اعتماده بين يديّ أجل يدنو أملاً أن يتحقق قبل نفاذه ما يدعو له، وللتاريخ كذلك أنه ظل حريصاً حتى آخر لحظة بلا لجلجة ولا تردد على الوصول إلى تحول سلمي يحقق الحرية والعدالة والسلام للسودانيين.
قد يتفق بعض الناس في رؤية الدكتور الترابي زعيماً أسطورياً متعدّد المناقب والمواهب وصاحب دور محوري في تحولات بالغة التأثير في تاريخ السودان الحديث، وقد يذهب آخرون إلى تحميله المسؤولية عن كل الأوزار التي يرون أن حقبة الإنقاذ التي جاءت على أكتاف الحركة الإسلامية بقيادته قد تسببت فيها، غير أنه من المؤكد أنه لن يمر وقت طويل حتى يُدرك خصوم الشيخ في الساحة السياسية قبل مؤيديه ومناصريه أنه ترك فراغاً عريضاً لن يستطيع أحد أن يملأه، وأنه لن يكون بوسع أحد القيام بالأدوار التي كان يؤديها في الساحة السودانية، وأن تأثيره أعمق مما يتصورون.
سيكتشف كثيرون، قبل ان يطول الزمان، أن غيابه المفاجئ جاء في وقت بالغ الحرج من تاريخ البلاد، وسيخل بكثيرمن الحسابات والموازين التي كانت تحكم المعادلات الراهنة وتوازناتها، وأن وجوده كان بمثابة صمّام أمان، لا سيما في السنوات القليلة الماضية، من الإنزلاق إلى أتون المزيد من صراعات لا تبقي ولا تذر، وهي مخاطر قد لا يراها البعض سواء في لحظات الحزن والعاطفة الجيّاشة الراهنة، أو من فرط اعتقاد البعض أن في غيابه ما يدعو للغبطة انتقاماً من فعائل نظام هو عرابه.
لا شك أن السؤال الكبير الذي يفرض نفسه على الجميع ما هو تأثير رحيله وانعكاسات ذلك على مجريات الأمور في السودان على أكثر من صعيد، سواء في بعدها القومي، أو في دوائر السلطة، وكذلك في أوساط الإسلاميين المنقسمين على أنفسهم.
من المؤكد أن أول اختبار لتأثير هذا الغياب سيلقي بظلاله على عملية الحوار الوطني الجارية حالياً، على علّاتها، والحقيقة الموضوعية السافرة أنه على مدار أكثر من عامين حاول الترابي بكل طاقته وبكل تصميم على دفع الحوار إلى الإمام كرهان وحيد لا يقبل القسمة على اثنين، كأن الأمل عنده بالطبع أن يكون حواراً جامعاً مانعاً حاسماً، وعندما استحال ذلك تحت سطوة تمسّك السلطة بحيازتها ورفضها الاستجابة لشروط تحسين مناخ الحوار، راهن على مسار أخف وطأة على أهل السلطة عسى أن تحدث تفاعلاته  على محدوديتها زخماً يعزّز من مناخات الثقة حتى يفرض تحولاً تدريجياً نحو الهدف المرجو.
ولعل ما أهمّ الشيخ وشكل ضغطاً على قلبه المكدود أن الحوار حتى بصيغته الفضفاضة هذه، المتحررة من أية إلتزامات مرحلة انتقال لازمة وحاسمة، تحول إلى ما يشبه السيرك السياسي، اتخذ مساراً بإتجاه تكريس الأوضاع الراهنة بأكثر من وجهة التحول المنشود، وأطلق صراعاً داخلياً لتطويع المخرجات أدى إلى تسمّيم الأجواء مما زاد من إضعاف فرص إضفاء مصداقية لم يكن الحوار بحالته الراهنة يتمتع بها ابتداءاً.
ولذلك فإن المؤكد أن أول ضربة لرحيل الترابي ستقع على الحوار الوطني حتى بشكله المنقوص هذا، ذلك أنه حتى في وجوده حاضراً بكل ثقله الكارزمي والمعنوي، وما قيل من تعهدّات رئاسية تلقاها، فإن ذلك لم يشكل عامل ضغط فعّال على السلطة يحملها على الاقتراب من مفهومه للحوار في حده أدنى بأن يقود إلى منظومة سياسية خالفة على أساس من الحرية، والواقع أن الخطاب الرسمي والممارسة الفعلية تشير بوضوح إلى ان حسابات السلطة هي جني ثمار الحوار بحالته الراهنة لضمان الاستمرارية في احتكار السلطة في غياب أي استعداد لتقديم تنازلات ذات شأن، والسؤال ما الذي سيجعل السلطة الحاكمة تلتزم بتعهدات لم تف بها حتى في وجوده.
الأمر الثاني في شأن تأثير غياب الترابي المفاجئ سينعكس سلباً في أوساط الإسلاميين عموماً، وداخل حزبه المؤتمر الشعبي على وجه الخصوص، فعلى الرغم من نداءات وحدة الإسلاميين التي أطلقها البعض في خضم حالة الحزن التي فرضت نفسها في مأتمه، وبسبب الخشية من الغد المجهول، فإن تأثيرها لن يلبث أن يزول لتبرز حقيقة الأشياء، فوحدة الإسلاميين مطلب يرفع عادة عند النوازل إلا أنه تأكد استحالة حدوثه في حياة الشيخ بكل رمزيته، فمن باب أولى ان يغدو أكثر صعوبة في غيابه.
 فالإجماع الذي لم يتحقق حول الترابي حياً، لن يكون بوسع من يخلفه أياً كان أن يملك المقدرة على جمع الناس حوله في ظل تعقيدات تجربة الإنقاذ بكل تبعاتها على وحدة الإسلاميين أنفسهم والمرارات التي خلفها الصراع على السلطة. أما الأهم من ذلك كله فهو أن وجود الترابي كان عاملاً حاسماً في كبح جماح المغامرين، والمتذمرين من أنصاره، وقد ظل يحملهم حملاً على التسامح والتعافي، وهو دور لا أحد يعلم إن كان بوسع أي شخص آخر أن يلعبه. وقد يكتشف فريق الإسلاميين المرتبط بالسلطة أن وجود الترابي كان مهماً وضرورياً بالنسبة لهم ربما بمثل أهمية وجوده للمرتبطين بحزبه المعارض.
من المؤكد أن أزمة السودان اليوم بكل تعقيداتها أوسع من أن تحصر في تداعيات غياب الترابي في أوساط الإسلاميين المنقسمين على أنفسهم، فحتى محاولة توحيدهم مع استحالة تحققها فلن تحل المأزق الوطني العميق الراهن الذي تعيشه البلاد ويتجلى في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المنذرة بالانفجار.
ولعل المخرج الوحيد من تبعات وعواقب حالة السيولة التي تخيّم على البلاد، أن تراجع السلطة الحاكمة نفسها وأن تعيد حساباتها بأسرع ما يمكن لصالح ما كان يسعى الشيخ الترابي لتحقيقه انتقالاً حقيقياً نحو مربع جديد يعيد للشعب السوداني أمانته، ذلك أن إتخاذ الحوار المنقوص مناورة قصيرة النظر لكسب الوقت، سيفاقم من المشكلات الراهنة، ولن يكون بوسع أحد التنبوء بردود الفعل عليها في غياب الدور الكابح الذي كان يقوم به الدكتور الترابي، ولعل الأيام تثبت أن أن ما لم يحققه الترابي في أواخر حياته من أمنية لحوار سلمي جدي شامل يفضي لتغيير حقيقي، سيكون هو السبيل الوحيد لإنقاذ “الإنقاذ” من نفسها، ولإنقاذ السودان من عواقب آخر مغامراتها.

التعليقات مغلقة.

error: